سلسله غزوات النبي صلي الله عليه وسلم
الدرس الحادي عشر من سلسله غزوات النبي
=====================
غزوه دومه الجندل:
********************
كانت غزوة دومة الجندل في ربيع الأول سنة خمس كانت من ضمن حركة تثبيت أركان الدولة الإسلامية فبعد غزوة بدر الموعد تحركت القوات الإسلامية بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو قضاعة التي كانت تنزل شمال قبائل أسد وغطفان وفي حدود الغساسنة الموالين للدولة الرومية (بيزنطة) ولها إشراف على سوق (دومة الجندل) الشهير (على بعد 450 كيلومترًا شمال المدينة) , كانت هذه القبيلة أول من احتك بها المسلمون فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة المعروفة بغزوة دومة الجندل (ربيع الأول 5هـ/ أغسطس 626م) فقد وصلت الأنباء إلى المدينة بتجمع بعض القبائل عند دومة الجندل للإغارة على القوافل التي تمر بهم والتعرض لمن في القافلة بالأذى والظلم كما وردت الأنباء بأنهم يفكرون في القرب من المدينة لعجم عودها .
إن دومة الجندل تعتبر بلادًا نائية بالنسبة للمدينة المنورة لأنها تقع على الحدود بين الحجاز والشام، وفي منتصف الطريق بين البحر الأحمر والخليج العربي وهي على مسيرة ست عشرة ليلة من المدينة ولو أن المسلمين أغفلوا أمرها وسكتوا على وجود هذا التجمع فيها ما لامهم أحد ولا ضرهم هذا التجمع في شيء على المدى القريب ولكن النظرة السياسية البعيدة والعقلية العسكرية الفذة أوجبت على المسلمين أن يتحركوا لفض هذا التجمع والقضاء عليه قبل أن يستفحل شأنه للأسباب الآتية، وكذلك بغية تحقيق بعض الأهداف:
1 - لأن السكوت على هذا التجمع وما شاكله يؤدي بلا شك إلى تطوره واستفحاله، ثم يؤدي بعد ذلك إلى إضعاف قوة المسلمين وإسقاط هيبتهم، وهو الأمر الذي يجاهدون من أجل استرداده.
2 - وجود مثل هذا التجمع في الطريق إلى الشام قد يؤثر على الوضع الاقتصادي للمسلمين فلو أن المسلمين سكتوا على هذا التجمع لتعرضت قوافلهم أو قوافل القبائل التي تحتمي بهم للسلب والنهب, مما يضعف الاقتصاد ويؤدي إلى حالة من التذمر والاضطراب.
3 - وهناك أمر أهم من الأمرين السابقين وهو فرض نفوذ المسلمين على هذه المنطقة كلها وإشعار سكانها بأنهم في حمايتهم وتحت مسئوليتهم، لذلك فهم يؤمنون لهم الطرق ويحمون لهم تجارتهم ويحاربون كل إرهاب من شأنه أن يزعجهم أو يعرضهم للخطر .
4 - حرمان قريش من أي حليف تجاري قد يمدها بما تحتاج من التجارة، وصرف أنظارهم عن هذه المنطقة التجارية الهامة لأن ظهور الدولة الإسلامية بهذه القوة يؤثر على نفسية قريش العدو الأول للدولة الإسلامية, ويجعلها تخشى المسلمين على تجارتها .
5 - الحرص على إزالة الرهبة النفسية عند العرب الذين ما كانوا يحلمون بمواجهة الروم، والتأكيد عمليًا للمسلمين بأن رسالتهم عالمية وليست مقصورة على العرب. ورأى بعض المؤرخين كالذهبي والواقدي ومحمد أحمد باشميل، وغيرهم أن من أهداف تلك الغزوة إرهاب الروم الذين تقع المنطقة التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم بجيشه على حدودهم وعلى مسافة خمس ليالٍ من عاصمة ملكهم الثانية دمشق . لهذا ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين للخروج وخرج في ألف من أصحابه, وكان يسير الليل، ويكمن النهار حتى يخفي مسيره ولا تشيع أخباره وتنقل أسراره، وتتعقبه عيون الأعداء .
واتخذ له دليلاً من بني عذرة يسمى (مذكورًا) وسار حتى دنا من القوم, عندئذ تفرقوا، ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أحدًا فقد ولوا مدبرين، وتركوا نعمهم وماشيتهم غنيمة باردة للمسلمين وأسر المسلمون رجلا منهم، وأحضروه إلى الرسول فسأله عنهم، فقال: هربوا لما سمعوا بأنك أخذت نعمهم فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلم وأقام بساحتهم أيامًا وبعث البعوث وبث السرايا وفرق الجيوش فلم يصب منهم أحد وعاد المسلمون إلى المدينة وفي أثناء عودتهم وادع الرسول عيينة بن حصن الفزاري واستأذن عيينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن ترعى إبله وغنمه في أرض قريبة من المدينة على ستة وثلاثين ميلا منها.
إن وصول جيوش المسلمين إلى دومة الجندل وهي على هذه المسافة البعيدة من المدينة وموادعة عيينة بن حصن للمسلمين واستئذانه في أن يرعى بإبله وغنمه في أرض بينها وبين المدينة ستة وثلاثون ميلا أي ما يقرب من خمسة وستين كيلومترًا لدليل قاطع على ما وصلت
إليه قوة المسلمين وعلى شعورهم بالمسئولية الكاملة تجاه تأمين الحياة للناس في هذه المنطقة، وأَن هذه المناطق النائية كانت ضمن الدولة الإسلامية، وإن الدولة أصبحت منيعة ليس في مقدور أحد أن يعتدي عليها، ولو كان ذلك في استطاعة أحد لكان هو عيينة بن حصن الذي كان يغضب لغضبه عشرة آلاف فتى .
كانت غزوة دومة الجندل بعيدة عن المدينة من جهة الشام إذ بينها وبين دمشق ما لا يزيد عن خمس ليالٍ وقد كانت بمثابة إعلان عن دعوة الإسلام بين سكان البوادي الشمالية وأطراف الشام الجنوبية، وأحسوا بقوة الإسلام وسطوته, كما كانت لقيصر وجنده كما أن سير الجيش الإسلامي هذه المسافات الطويلة قد كان فيه تدريب له على السير إلى الجهات النائية وفي أرض لم يعهدها من قبل ولذلك تعتبر هذه الغزوة فاتحة سير الجيوش الإسلامية للفتوحات العظيمة في بلاد آسيا وأفريقيا فيما بعد .
كان خطة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة ترمي إلى أهداف عديدة، فهي غزوة وحرب استطلاعية تمسح الجزيرة العربية وتتعرف على مراكز القوى فيها وهي حرب إعلامية تأتي على أعقاب بدر الموعد، وتستثمر انتصاراتها وهي حرب عسكرية تريد أن تصد هجومًا محتملاً على المسلمين حيث ضوى إليها قوم من العرب كثير يريدون أن يدنوا من المدينة، وهي حرب سياسية تريد أن تجهض من تحركات القبائل المحتمل أن تتحرك بعد أنباء غزوة أحد لتقصد المدينة وتسبيحها .
كانت هذه الغزوة دورة تربوية رائعة وقاسية وشاملة يقودها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه ألف من أصحابه، فيتلقون فيها كل لحظة دروسًا في الطاعة والانضباط ودروسًا في التدريب الجسمي والعسكري والتحمل لمشاق الحياة وصعوباتها، وأحكامًا وفقهًا في الحلال والحرام، وعمليات صهر وتذويب لقواعد الجيش الإسلامي في بوتقة واحدة خارج إطار العشيرة، وخارج كيان القبيلة، حيث أخذت تفد إلى المدينة عناصر كثيرة من أبناء القبائل المجاورة، والتخلي عن الأطر القبلية وعصاباتها للانصهار في بوتقة الأمة الواحدة التي تجعل الولاء لله ورسوله, وفوق هذا كله تتيح الفرصة لجيل بدر الرائد أن يقوم بمهمة التربية للوافدين الجدد وتعليمهم وتثقيفهم، كما تتيح الفرصة لكشف ضعاف النفوس، ومن له صلة بمعسكر النفاق من خلال مراقبة تصرفاته وسلوكه، إنها ليست ساعات محدودة أو أيامًا معدودة, بل هي دورة قرابة شهر، لا يمكن إلا أن تبرز فيها كل الطبائع وكل النوازع، فيتلقاها عليه الصلاة والسلام ليصوغها على ضوء الإسلام ويعلم الجيل الرائد فن القيادة وعظمة السياسة كانت معركة صامتة، وتربية هادئة، وكان الجيش مع قائده يقطع ما ينوف عن ألف ميل في هذه الصحراء، يتربى ويتثقف ويتدرب ويمتحن ويقوم, ليكون هذا استعدادًا لمعارك قادمة . وفي غيابه في غزوة دومة الجندل عين صلى الله عليه وسلم سباع بن عرفطة الغفاري واليًا على المدينة في تجربة جديدة، فهو ليس أوسيًّا ولا خزرجيًّا ولا قرشيًا, بل من غفار التي كانت تعتبر من سراق الحجيج عند العرب، فلا بد لهذا الجيل أن يتربى على الطاعة والانضباط للأمير أيا كان شأن هذا الأمير، وهذا يدل على عظمة المنهج النبوي في تربية الأمة والارتقاء بها, وعلى عظمة قيادة النبي صلى الله عليه وسلم وفراسته في أتباعه وثقته فيهم ومعرفته لمواهبهم، فهو صلى الله عليه وسلم على معرفة بكفاءة سباع بن عرفطة الغفاري وعبقريته وقدرته على الإدارة الحازمة، فكان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه وهو غائب عن المدينة لكي يهيمن منهج رب العالمين على المسلمين, ويصنع منها أمة واحدة تسمع وتطيع لكتاب ربها وسنة نبيها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق