سلسله غزوات النبي صلي الله عليه وسلم
الدرس الخامس من سلسله غزوات النبي
=====================
غزوة بدر الكبرى
========
لما كان من أمر انصراف عير قريش من الشام في رمضان من تلك السنة الثانيه من الهجره . وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر هذه العير بصبحة أبي سفيان بن حرب وهي العير التي خرجوا في طلبها لما خرجت من مكة، وكانوا أربعين رجلا، وهي حافلة بأموال كثيرة لقريش.
ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إلى هذه العير وأمر من كان ظهره حاضرا بالخروج والنهوض فورا، ولم يحتفل لها احتفالا بليغا، لأنه خرج مسرعا من ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان: فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيرا يعتقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي ومرتد ابن أبي مرتد الفنوي يعتقبون بعيرا، وزيد بن حارثة، وابنه، وكبشة موالى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرا، وأبو بكر وعمر، وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا، واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة بن عبد المنذر، واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، والراية الواحدة إلى علي بن أبي طالب، والآخرى التي للأنصار إلى سعد بن معاذ وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وسار، فلما قرب من الصفراء، بعث بسيس بن عمرو الجهني، وعدي ابن أبي الزغباء إلى بدر يتجسسان أخبار العير، وأما أبو سفيان ، فإنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقصده إياه، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة، مستصرخا قريش بالنفير إلى عيرهم؛ ليمنعوه من محمد وأصحابه، وبلغ الصريخ أهل مكة؛ فنهضوا مسرعين وأوعبوا في الخروج لم يتخلف منهم أحد، انسابوا مهروعين من بطون قريش إلا بني عدي، حيث لم يخرج منهم أحد، وخرجوا من ديارهم كما قال الله تعالى: بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وأقبلوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بحدهم وحديدهم، تحادّه وتحاد رسوله.، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم انثيال القرشيين عليه قال:
«اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها؛ تجادل وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة» .
جاؤوا على حرد قادرين، وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما يريدون من أخذ غيرهم وقتل من فيها، وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي، والعير التي كانت معه، فجمعهم الله على غير ميعاد، كما قال الله تعالى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا .
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج قريش استشار أصحابه فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانيا، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثالثا، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! كأنك تعرض بنا؟ وكان إنما يعنيهم؛ لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخروج استشارهم ليعلم ما عندهم.
فقال سعد بن معاذ: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها أن لا
ينصروك إلا في ديارها، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان، لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك.
وقال له المقداد: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون، وكلنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك، فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسرّ بما سمع من أصحابه، وقال:
«سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم» .
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وخفض أبو سفيان فلحق بساحل البحر، ولما أنه قد نجا، وأحرز العير كتب إل قريش: أن ارجعوا، فإنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم، فأتاهم الخبر، وهم بالجحفة، فهموا بالرجوع، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نقدم بدرا، فنقيم بها، ونطعم من حضرنا من العرب، وتخافنا العرب بعد ذلك، فأشار الأخنس بن شريق عليهم بالرجوع، فعصوه، فرجع هو وبنو زهرة، فلم يشهد بدرا زهرى، فاغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس، فلم يزل فيهم مطاعا معظما، وأرادت بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل، وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع فساروا، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عشيا أدنى ماء من مياه بدر، فقال: «اشيروا عليّ من المنزل» فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله، أنا عالم بها وبقلبها، إن رأيت أن نسير إلى قلب قد عرفناها، فهي كثيرة الماء، عذبة، فننزل عليها ونسبق القوم إليها، ونغوّر ما سواها من المياه.
وسار المشركون سراعا يريدون المياه، وبعث عليا، وسعدا والزبير إلى بدر يلتمسون الخبر، فقدموا بعبدين لقريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فسألهما
أصحابه: من أنتما؟ قالا: نحن سقاة لقريش، فكره ذلك أصحابه، وودوا لو كانا لعير أبي سفيان، فلما سلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: أخبراني، أين قريش؟ قالا:
وراء هذا الكثيب. فقال: كم القوم؟ فقالا: لا علم لنا، فقال: كم ينحرون كل يوم؟ فقالا: يوما عشرا، ويوما تسعا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين تسعمائة إلى الألف. فأنزل الله عز وجل من تلك الليلة مطرا واحدا، فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلّا طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطّأ به الأرض، وصلّب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط على قلوبهم، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الماء، فنزلوا عليه شطر الليل، وصنعوا الحياض، ثم غوّروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الحياض.
وبنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا يكون فيها تل يشرف على المعركة، ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان فما تعدى أحد منهم موضع إشارته «1» .
فلما طلع المشركون، وتراءى الجمعان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - «اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها جاءت تحادك، وتكذب رسولك» ثم قام ورفع يديه، واستنصر ربه وقال: - «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك» فالتزمه الصديق من ورائه، وقال: يا رسول الله، أبشر، فو الذي نفسي بيده، لينجزن الله لك ما وعدك» .
وقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: - «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك. فخرج وهو يقول: - «سيهزم الجمع ويولون الدبر» .
استنصر المسلمون الله تعالى واستغاثوه..
وأخلطوا له، وتضرعوا إليه، فأوحى الله إلى ملائكته: - «أني معكم فثبتوا الذين آمنوا، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب» .
وكان الحق سبحانه وتعالى أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: - أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ . فقيل: إن المعنى أنهم ردف لكم، وقيل يردف بعضهم بعضا أرسالا، لم يأتوا دفعة واحدة.
قال الإمام ابن قيم الجوزية : -
فإن قيل: ها هنا ذكر أنه أمدهم بألف، ومن سورة آل عمران قال: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ . فكيف الجمع بينهما؟؟؟
قيل إنه قد اختلف من هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف، والذي بخمسة الآلاف على قولين: -
أحدهما: أنه كان يوم أحد، وكان إمدادا معلقا على شرط، فلما فات شرطه، فات الإمداد .
ثانيهما: أنه كان يوم بدر .
والقائلون بهذا حجتهم أن السياق يدل على ذلك؛ فإنه سبحانه وتعالى قال: - وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا .
ثم قال عز من قائل: - وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ قال هؤلاء: فلما استغاثوا أمدهم بتمام ثلاثة آلاف، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف، لما صبروا واتقوا، فكان التدريج، ومتابعة الإمداد أحسن موقعا، وأقوى لنفوسهم، وأسر لها من أن يأتي به مرة واحدة وهو بمنزلة متابعة الوحي ونزوله مرة بعد مرة.
قالت الفرقة الأولى: المقصة في سياق أحد، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضا في أثنائها، فإنه سبحانه قال: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ .
كذلك قوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ . ثم يقول بعدها: فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فذكرهم نعمته عليهم لما نصرهم يوم بدر، وهم أذلة،
ثم عاد إلى قصة أحد، وقد أخبرهم عن قول رسوله لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ.
ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف، فهذا من قول رسوله، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى: وهذا بخمسة آلاف، وإمداد بدر بألف وهذا معلق على شرط، وذلك مطلق.
والقصة في سورة آل عمران هي قصة أحد مستوفاة مطولة، وفيها ذكرت بدر اعتراضا. والقصة مذكورة مستوفاة مطولة في سورة الأنفال، ولذلك سميت سورة الأنفال ب (سورة بدر) عند بعض العلماء.
فالسياق في (آل عمران) غير السياق في الأنفال، ويوضح هذا أن قوله تعالى: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا .
وقد قال مجاهد: إنه يوم أحد، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه، فلا يصح قوله إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر، وإتيانهم من فورهم هذا يوم أحد.
والله تعالى أعلم.
وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع شجرة هناك، وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان من السنة الثانية، فلما أصبحوا، أقبلت قريش في كتائبها، واصطف الفريقان، فمشى حكيم بن حزام، وعتبة بن ربيعة في قريش، أن يرجعوا ولا يقاتلوا فأبى ذلك أبو جهل، وجرى بينه وبين عتبة كلام أحفظه ، وأمر أبو جهل أخا عمرو بن الحضرمي أن يطلب دم أخيه عمرو، فكشف عن إسته ، وصرخ واعمراه، فحمي القوم ونشبت الحرب، وعدّل رسول صلى الله عليه وسلم الصفوف، ثم رجع
إلى العريش هو وأبو بكر- رضي الله عنه- خاصة وقام سعد بن معاذ في قوم من الأنصار على باب العريش يحمون رسول صلى الله عليه وسلم.
وخرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة يطلبون المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار، عبد الله بن رواحة، وعوف، ومعوذ ابنا عفراء، فقالوا لهم: من أنتم؟ فقالوا: من الأنصار قالوا: أكفاء كرام، وإنما نريد بني عمنا، فبرز إليهم علي، وعبيدة بن الحارث وحمزة، فقتل علي قرنه الوليد، وقتل حمزة قرنه عتبة، وقيل شيبة، واختلف عبيدة وقرنه ضربتين، فكرّ عليّ وحمزة على قرن عبيدة فقتلاه، واحتملا عبيدة، وقد قطعت رجله فلم يزل ضمنا حتى مات بالصفراء.
وكان علي يقسم بالله لنزلت هذه الآية فيهم: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ .
ثم حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب، واشتد القتال وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء والإبتهال ومناشدة ربه عز وجل حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال: بعض مناشدتك ربك فإنه منجز لك ما وعدك.
فأغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، وأخذ القوم النعاس في حال الحرب، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع» .
وجاء النصر، وأنزل الله جنده وأيد الله رسوله والمؤمنين ومنحهم أكتاف المشركين أسرى وقتلى، فقتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين.
ولما عزموا على الخروج، ذكروا ما بينهم وبين بني كنانة من الحرب، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة المدلجي (سراقة ابن مالك) وكان من أشراف بني كنانة، فقال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فخرجوا، والشيطان جار لهم، لا يفارقهم، فلما تعبأوا للقتال، ورأى
عدو الله جند الله قد نزلت من السماء، فرّ ونكص على عقبيه، فقالوا: إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت: إنك جار لنا لا تفارقنا؟، فقال: إني أرى ما لا ترون. إني أخاف الله والله شديد العقاب. وصدق في قوله: «إني أرى ما لا ترون» وكذب في قوله: «إني أخاف الله» وقيل: كان خوفه على نفسه أن يهلك معه، وهذا أظهر.
ولما رأى المنافقون، ومن في قلبه مرض قلة حزب الله، وكثرة أعدائه ظنوا أن الغلبة إنما هي بالكثرة، وقالوا: «غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ»
فأخبر سبحانه وتعالى أن النصر بالتوكل عليه، لا بالكثرة ولا بالعدد، والله عزيز لا يغالب، حكيم ينصر من يستحق النصر، وإن كان ضعيفا فعزته وحكمته أوجبت نصر الفئة المتوكلة عليه.
ولما دنا العدو، وتواجه القوم، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فوعظهم، وذكرهم بما لهم في الصبر والثبات من النصر، والظفر العاجل، وثواب الله الآجل وأخبرهم أن الله قد أوجب الجنة لمن استشهد في سبيله فقام عمير بن الحمام فقال: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟ قال نعم، بخ بخ ؟ قال: لا، والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: - «فإنك من أهلها» قال: فأخرج ثمرات «3» من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل من تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل، فكان أول قتيل.
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ملء كفيه من الحصباء فرمى به وجوه العدو ، فلم تترك
رجلا منهم إلا ملأت عينيه، وشغلوا بالتراب في أعينهم، وشغل المسلمون بقتلهم.
وفي حديث عبد الله بن صعير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فأخذ كفا من الحصى بيده، ثم خرج فاستقبل القوم فقال: شاهت الوجوه، ثم نفحهم بها ثم قال لأصحابه:
(احملوا، فلم تكن إلا الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديدهم، وأسر من أسر منهم) .
أنزل الله تعالى في شان هذه الرمية، على رسوله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: - «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى) .
وقد ظن طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد، وإثباته لله، وإنه هو الفاعل الحقيقي، وهذا غلط وفساد منهم من وجوه عديدة مذكورة عند أكثر أهل العلم من المفسرين وفي غير هذا الموضع.
كانت الملائكة يومئذ تبادر المسلمين إلى قتل أعدائهم، قال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وسوط الفارس فوقه يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقيا، فنظر إليه، فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمعه، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة) «2» .
وقال أبو داود المازني: «إني لأتبع رجلا من المشركين؛ لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري»
وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرا، فقال العباس:
إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق، ما أراه من القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: اسكت، فقد أيدك الله بملك كريم» وأسر من بني عبد المطلب ثلاثة: العباس، وعقيل، ونوفل ابن الحارث .
وثبت أن إبليس لما رأى ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه، فتشبث به الحارث بن هشام، وهو يظنه سراقة بن مالك، فوكزه في صدر الحارث، فألقاه، ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر، ورفع يديه وقال:
اللهم إني أسألك نظرتك إياي، وخاف أن يخلص وينتهي إليه القتل، فأقبل أبو جهل ابن هشام فقال: يا معشر الناس، لا يهز منكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل عتية وشيبة والوليد، فإنهم قد عجلوا فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال. ولألقين رجلا منكم قتل رجلا منهم، ولكن خذوهم أخذا؛ حتى نعرفهم سوء صنيعهم.
واستفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال: اللهم أقطعنا للرحم، وآتلنا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحبّ إليك، وأرضى عندك فانصره اليوم، فأنزل الله عز وجل: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ .
ولما وضع المسلمون أيديهم في العدو يقتلون ويأسرون، وسعد ابن معاذ واقف
على باب الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي العريش متوشحا بسيفه في ناس من الأنصار رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كأنك تكره ما يصنع الناس؟» قال: أجل، والله كانت أول وقعة أوقعها الله بالمشركين. وكان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال.
ولما بردت الحرب، وولى القوم مدحورين مهزومين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ينظر لنا ما صنع أبو جهل» ؟ فانطلق ابن مسعود، فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، وأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل؟ فقال: لمن الدائرة اليوم؟ فقال: لله ولرسوله، وهل أخزاك الله، يا عدو الله؟ فقال: وهل فوق رجل قتله قومه؟ فقتله عبد الله، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قتلته، فقال: «الله الذي لا إله إلا هو، فرددها ثلاثا، ثم قال: «الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق، أرنيه» فانطلقنا، فأريته إياه، فقال: هذا فرعون هذه الأمة .
وأسر عبد الرحمن بن عوف أمية بن خلف، وابنه عليا، فأبصره بلال، وكان أمية يعذبه بمكة، فقال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، ثم استوخى جماعة من الأنصار واشتد عبد الرحمن بهما يحرزهما منهم، فأدركوهم، فشغلهم عن أمية بابنه ففرغوا منه ثم لحقوهما فقال له عبد الرحمن: أبرك، فبرك، فألقى نفسه عليه، فضربوه بالسيوف من تحته حتى قتلوه، وأصاب بعض السيوف رجل عبد الرحمن بن عوف. قال له أمية قبل ذلك: من الرجل المعلم في صدره بريشة نعامة؟ فقال: ذلك حمزة بن عبد المطلب، فقال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل؟
وكان مع عبد الرحمن أدراع قد استلبها، فلما رآه أمية، قال له: أنا خير لك من هذه الأدراع فألقاها وأخذه، فلما قتله الأنصار، كان يقول: يرحم الله بلالا، فجعني بأدراعي، وبأسيري.
وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن محصن، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم جزلا من حطب فقال: - «دونك هذا، فلما أخذه عكاشة وهزه عاد في يده سيفا طويلا شديدا أبيض، فلم يزل عنده يقاتل به، حتى قتل في الردة أيام أبي بكر.
ولقي الزبير عبيدة بن سعيد بن العاص، وهو مدجج في السلاح لا يرى منه إلا الحلق، فحمل عليه الزبير بحربته، فطعنه في عينه فمات، فوضع رجله على الحربة، ثم تمطى فكان الجهد أن نزعها وقد انثنى طرفاها. قال عروة: فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر رضي الله عنه فسأله إياها عمر، فأعطاه إياها، فلما قبض عمر، أخذها، ثم طلبها عثمان، فأعطاه إياها، فلما قبض عثمان، وقعت عند آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير، وكانت عنده حتى قتل .
قال رفاعة بن رافع: «رميت بسهم يوم بدر، ففقئت عيني، فبصق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا لي، فما آذاني منها شيء» .
ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى فقال: - «بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني، وأخرجتموني وآواني الناس» .
ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قلب بدر، فطرحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال: - «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ما تخاطب من أقوام قد جيّفوا؟ فقال: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب»
ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرصة ثلاثا، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثا.
ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم مؤيدا منصورا، قرير العين بنصر الله وتمام نعمته وفضله، ومعه الأسارى والغنائم، ثم قسم الغنائم، وضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة، ثم لما نزل بعرق الظبية ضرب عنق عقبة بن أبي معيط.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مؤيدا مظفرا منصورا قد خافه كل عدو له بالمدينة، وحولها، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه في الإسلام ظاهرا.
وجملة من حضر بدرا من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المهاجرين ستة وثمانون رجلا، ومن الأوس واحد وستون رجلا، ومن الخزرج مائة وسبعون رجلا، وإنما قل عدد الأوس عن الخزرج، وإن كانوا أشد منهم وأقوى شوكة، وأصبر عند اللقاء؛ لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة، وجاء النفير بغتة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يتبعنا إلا من كان ظهره حاضرا) .
فاستأذنه رجال ظهورهم في علو المدينة أن يستأني بهم حتى يذهبوا إلى ظهورهم فأبى.
ولم يكن عزمهم على اللقاء، ولا أعدوا له عدته، ولا تأهبوا له أهبته، ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس. وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن بدر والأسارى في شوال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق