المـــوت
حقيقه الحياه الدنيا
الحمد
لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة، وأنهى بالموت آمال القياصرة؛ فنقلهم
الموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة
الجواري والنسوان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في ألوان الطعام
والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، ينادي يوم القيامة بعد فناء خلقه، ويقول: أنا الملك.. أنا
الجبار.. أنا المتكبر.. لمن الملك اليوم؟ ثم يجيب على ذاته سبحانه: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ .
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى
الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، ولبى داعي ربه حتى
أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر
الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علم
الجاهل، وقوم المعوج، وأمن الخائف، وطمأن القلب، ونشر أضواء الحق والخير
والتوحيد والإيمان كما تنشر الشمس في سائر الأكوان، رفع الله له ذكره، وشرح
الله له صدره، وزكاه ربه على جميع الخلق، ومع ذلك خاطبه ربه بقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ .
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل
من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أمـا بعـــد:
عبــاد الله
أقوام يأتون، وآخرون يرحلون، أرحام تدفع، وأرض تبلع،
مثلهم كمثلِ أمواج بحر متدفقة متلاحقة، إذا انكسرت على الشط موجة تبعتها
موجة أخرى، أو كمثل نهر متدفق تراه دائماً يجرى مع أن الماء الذي تراه
اللحظة غير الماء الذي رأيته قبل لحظة، وحتماً سيأتي اليوم الذي ينتهي فيه
الوجود الإنساني كله، فتنطفئ نجوم الليل، وتتوقف موجات البحر، بل وتجف مياه
العيون والآبار، ويقوم الجميع ليقفوا بين يدي العزيز الغفار؛ كما قال
سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ .
عباد الله
حديثي اليوم عن الموت،
أيها الأخيار!
لقد بين الله جل وعلا
لنا الغاية التي من أجلها خلقنا فقال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . وبين لنا حقيقة هذه الدنيا التي جعلها محل اختبار لنا فقال سبحانه: اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ
أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ
يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ
اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ
الْغُرُورِ
وأكد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة في حديثه عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال الحبيب: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
فالدنيا حقيرة عند الله، أعطاها للكافر والمؤمن على السواء، ولو كانت
الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء؛ لذا كان
المصطفى يوصي أصحابه بعدم الركون والطمأنينة إلى هذه الدار،
كما أوصى بذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري أنه قال له: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر
يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من
صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك. ورحم الله من قال: إن لله عبـاداً فطنـا طلقوا
الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحـي وطنـا جعلوها
لجة واتخـذوا صالح الأعمال فيها سفنا
عبــــــــــــــــاد الله
الفطناء
العقلاء الأذكياء هم الذين عرفوا حقيقة الدار فحرثوها وزرعوها، وهنالك في
الآخرة تجنى الثمار، فالذم الوارد في القرآن والسنة للدنيا لا يرجع إلى
زمانها من ليل أو نهار؛ فلقد جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو
أراد شكوراً، والذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا لا يرجع إلى مكانها ألا
وهو الأرض، إذ إن الله قد جعل الأرض لبني آدم سكناً ومستقراً، والذم
الوارد للدنيا في القرآن والسنة لا يرجع إلى ما أودعها الله عز وجل من
خيرات، فهذه الخيرات نعم الله على عباده وعلى الناس، وإنما الذم الوارد في
الكتاب والسنة للدنيا يرجع إلى كل معصية تُرتكب على ظهرها في حق ربنا جل
وعلا، فلابد من تأصيل هذا الفهم، لاسيما لإخواننا الدعاة وطلاب العلم الذين
ربما يغيب عن أذهانهم حقيقة الزهد في هذه الحياة الدنيا، فنحن لا نريد أن
نقنط أحداً من هذه الحياة، ولا نريد أن نثبت لكل عامل في هذه الدنيا ولو
كان في الحلال أنه تجاوز طريق الأنبياء والصالحين والأولياء، كلا! كلا! بل
الدنيا مزرعة للآخرة.
أيها الأخيار!
تدبروا معي قول علي بن أبى طالب
رضي الله عنه: (الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار
غنى لمن أخذ منها، الدنيا مهبط وحي الله، ومصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء
الله). فالدنيا مزرعة الآخرة،عن أنس ، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة).
فلابد من هذا الفهم الدقيق بهذا الوعي العميق
لحقيقة الدنيا؛ لننطلق من هذه الدار إلى دار تجمع سلامة الأبدان والأديان
.. إلى دار القرار، فلابد قبل أن تعبر إلى دار القرار من المرور بهذه
الدار.
فالدنيا دار ممر والآخرة هي دار المقر، الدنيا مركب عبور لا منزل
حبور، الدنيا دار فناء وليست دار بقاء، فلابد من وعي هذه الحقيقة لنستغل
وجودنا في هذه الدار، ولنزرع هنا ونجني هنالك عند ربنا عظيم الثمار، أسأل
الله أن يجعلنا من الصادقين. إذا علمت ذلك أيها الحبيب الكريم! فاعلم هذه
الحقائق، وكن على يقين جازم بأن الحياة في هذه الدنيا موقوتة محدودة بأجل،
ثم تأتي نهايتها حتماً، فيموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون
ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد، يموت
الشرفاء الذين يأبون الضيم ويكرهون الذل، ويموت الجبناء الحريصون على
الحياة بأي ثمن، فالكل يموت، كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ
فلابد من أن تستقر هذه الحقيقة في القلب والعقل معاً، إنها الحقيقة التي
تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع وعقل كل مفكر أنه لا بقاء إلا
للملك الحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها
بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة التي شرب كأسها
الأنبياء والمرسلون، والعصاة والطائعون، إنها الحقيقة الكبيرة التي تؤكد
لنا كل لحظة من لحظات الزمن قول الله جل وعلا: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
عباد الله
تذكروا هذه الحقيقة ولا تتغافلوا عنها؛ إذ إن النبي قد أمرنا أن نكثر من ذكرها، عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا ذكر هادم اللذات الموت).
إنها الحقيقة التي سماها الله في قرآنه بالحق فقال جل وعلا: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ
هل علمت أن هذه الكلمات قالها حبيب رب الأرض والسموات وهو يحتضر على فراش الموت،
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (مات
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقتني، وكان بين يديه ركوة بها
ماء، فكان يمد يده في داخل الماء ويمسح وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن
للموت سكرات). هكذا يقول حبيب رب الأرض والسماوات، قال عز وجل: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ
فالمصطفى يذوق سكرة الموت ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت سكرات). وفي رواية كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للموت غمرات، وإن للموت سكرات!) وفي رواية: (كان صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت).
عباد الله
قال عز وجل: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ،
وما أدراك ما السكرات؟ وما أدراك ما الكربات؟ والله! إن الكرب والهم يزداد
في لحظات السكرات. إذا نمت على فراش الموت يا ابن آدم! ورأيت في غرفتك
التي أنت فيها دون أن يرى أحد غيرك، رأيت شيطاناً قد جلس عند رأسك يريد أن
يضلك عن كلمة (لا إله إلا الله) ويقول لك: مت يهودياً؛ فإنه خير الأديان!
أو يقول لك: مت نصرانياً؛ فإنه خير الأديان! قال صلى الله عليه وسلم (إن الشيطان يحضر كل شيء لابن آدم).
من الناس من تعرض عليه الأديان، ومنهم من لا يعرض عليه شيء قبل موته، ثم
قال: ولكنها من الفتن التي أمرنا النبي أن نستعيذ منها، كما في قوله: (اللهم أنى أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال).
فمن فتن الموت أن تأتي الشياطينُ لتصدك عن (لا إله إلا الله) ولتصدك عن
كلمة التوحيد؛ فهذه من الكربات، وهذه من أشد السكرات على ابن آدم، ولا حول
ولا قوة إلا بالله!
فهل علمت أخي في الله!
أن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ، حينما نام على فراش الموت ذهبت إليه الشياطين لتنادي عليه بهذه الكلمات؟ قال ولده: عبد الله:
حضرت الوفاة أبي فنظرت إليه، فإذا هو يغمى عليه ثم يفيق، ثم يشير بيده
ويقول: لا بعد، لا بعد، فلما أفاق الإمام في لحظة بين سكرات الموت وكرباته
قال له ولده عبد الله: يا أبت! تقول: لا بعد، لا بعد! فما هذا؟ فقال لولده: يا بني! هناك شيطان جالس عند رأسي عاض على أنامله يقول لي: يا أحمد! لو فتني اليوم ما أدركتك بعد اليوم، وأنا أقول له: لا بعد، لا بعد! حتى أموت على (لا إله إلا الله)
عباد الله
إن كنت من المؤمنين الصادقين الموحدين المخلصين واجتالتك الشياطين ثبتك رب العالمين، وأنزل إليك ملائكة التثبيت، فقال رسول الله (أن
المؤمن إذا نام على فراش الموت جاءته ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس،
معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون من المؤمن مد
البصر، حتى يأتي ملك الموت، ثم يجلس ملك الموت عند رأسه، وينادي على روحه
الطيبة وهو يقول: يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان،
ورب راضٍ عنك غير غضبان، فتخرج روح المؤمن سهلة، تسيل كما يسيل الماء من
في السقاء، فلا تدعها الملائكة في يد ملك الموت طرفة عين، ثم ترقى بها إلى
الله جل وعلا..).
هكذا أيها الأحبة!
يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ
اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]،
فتنزل ملائكة التثبيت على الموحدين لرب الأرض والسماء جل وعلا بهذه
البشارة التي سجلها ربُنا في قرآنه في قوله جل وعلا: إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ
أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ
فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ قال ابن عباس : (القول الثابت هو لا إله إلا الله
قال عز وجل: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ
والحق: أنك تموت والله حي لا يموت، والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة
أو ملائكة العذاب، والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر
النيران. وقوله عز وجل: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ذلك ما كنت منه تخاف، ذلك ما كنت منه تهرب، فكيف تحيد إلى الطبيب إذا
جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا
أحسست بالظمأ،
ثم ماذا أيها القوي الفتي؟! أيها الذكي العبقري! يا أيها
الوزير والأمير والكبير! ويا أيها الصغير والفقير والحقير! كلكم
كما قال
الشاعر:
كل باكٍ فسيُبَكى كل ناعٍ فسيُنعى كل مدخور سيفنى كل مذكور سيُنسى
ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى
وقال الشاعر الآخر:
أيا من يدعي الفهم
إلى كم يا أخا الوهم! تعب الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم أما بان لك
العيب؟! أما أنذرك الشيب؟! وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك
الموت؟! أما أسمعك الصوت؟! أما تخشى من الفوت؟! فتحتاط وتهتم فكم تسدر فى
السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم! كأني بك تنحط إلى
اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله
الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب
الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح! وقد بحت كمن باح
فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم
عبـاد الله
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ
(كلا إذا بلغت التراقي)، أي: إذا بلغت الروح الترقوة، (وقيل من راقٍ)، أي:
من يرقى بروحه: ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل: أي: من يبذل له
الرقية؟ ومن يبذل له الطب والعلاج؟ فهو صاحبُ الجاه .. صاحبُ الأموال ..
صاحب السلطان .. صاحب الوزارة، وقد التف الأطباء حوله، بل نقل في سيارة
خاصة إلى مستشفىً كبير، فالتف الأطباء من حوله: هذا متخصص في جراحة القلب،
وهذا متخصص في جراحة المخ والأعصاب، وذاك في تخصص كذا، وذاك في تخصص كذا،
وكلهم يريدون شيئاً، وملك الملوك قد أراد شيئاً آخر، قال عز وجل: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ . وقال سبحانه: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وقال جل وعلا: قُلْ
إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ
تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وقال تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ
التف الأطباء من حوله كل يبذل له الرقية ويقدم له العلاج، ولكن حار
الأطباء حوله وداروا؛ فما الذي جرى؟ وما الذي حدث؟ اصفر وجهه، وشحب لونه،
وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يشعر بزمهرير قارس، فينظر مرة في لحظة
السكرة والكربة فيرى الغرفة التي هو فيها قد صارت فضاءً موحشاً، أو تضيق
عليه فتصير كخرم إبرة، أو ينظر مرة فيرى أهله يبتعدون عنه ومرة يقتربون،
لقد اختلطت عليه الأمور والأوراق، فتراه يسأل: من هذا الذي عند رأسي؟! إنه
يعاينه ويراه، إنه ملك الموت! ومَنْ هؤلاء الذين يتنزلون من السماء؟ إنه
يراهم بعينيه! إنهم الملائكة! فيا ترى أهي ملائكة الرحمة أم ملائكة
العذاب؟! ويا ترى! ماذا سيقول لي ملك الموت؟ وهل سيقول لي: يا أيتها النفس
الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راضٍ غير غضبان، أم سيقول: يا
أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط الله وعذابه؟! فينظر في لحظة صحوة بين
السكرات والكربات فإذا وعى من حوله من أهله وأحبابه، نظر إليهم نظرة
استعطاف ونظرة رجاء وأمل، وقال بلسان الحال، بل وربما بلسان المقال: يا
أولادي! يا أحبابي! يا إخواني!
لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي؛ فأنا
أبوكم، وأنا الذي بنيت لكم القصور، وأنا الذي عمرت لكم الدور، وأنا الذي
نميت لكم التجارة، فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟! افدوني بأموالي،
افدوني بأعمالكم:
مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ
عبــــــــــــــــاد الله
الدنيا دار حقيقتها متاع يذهب الليل
فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب دنياك مهما طالت فهي قصيرة،
ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر
مهما طال لابد من دخول القبر ...
قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا
وضعت الجنازة وحملها الرجال على الأعناق تكلمت، وسمعها كل شيء إلا
الإنسان، إن كانت صالحة: قدموني قدموني! وإذا كانت غير صالحة تقول: يا
ويلها! إلى أين يذهبون بها؟ ولو سمعها الإنسان لصعق)،
إي والله! لو
سمعت جنازة تقول: قدموني قدموني، وسمعت جنازة أخرى لحبيب لك تقول: يا
ويلها! إلى أين تذهبون بها؟ لصعقت. وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم
أن نكثر من ذكر الموت لنستعد للقاء الله جل وعلا.
أيها اللاهي! أيها
الشاب! أيها الكبير! أيها الصغير! أيها الوزير! أيها الأمير! أيها الصغير!
أيها الحقير،
ذكر نفسك وقل لها: يا نفس قد أزف الرحيلُ وأظلك الخطب الجليل
فتأهبي يا نفس! لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به
الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى حمل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز
ولا الذليل
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق