في
شهر شوال من السنة التاسعة للهجرة ، وبعد آخر غزوات رسول الله – صلى الله
عليه وسلم - ، وارى التراب جثمانَ رجلٍ كان من أشدّ الناس خصومةً للإسلام
وأهله ، وشخصيّةٍ كانت مصدر قلقٍ ومنبع شرٍّ للمجتمع الإسلامي بأسره ، ذلك
هو زعيم النفاق ورافع لوائه عبدالله بن أبي بن سلول .
هذه
الشخصية هي صاحبة الامتياز في إخراج ظاهرة النفاق إلى الوجود ، فلم يكن
الناس قبل ذلك إلا مؤمناً صادق الإيمان ، أو كافراً مجاهراً بجحوده ،
فأضاف ابن سلول طريقاً ثالثاً أخطر من صريح الشرك ، وهو الكفر الخفي ؛
ليعمل على هدم الإسلام من داخله ، ويقضي على تلاحم أبنائه ، وتماسك أفراده .
وجذور
النفاق عميقةٌ في نفس ابن سلول ، وكانت البداية قبل هجرة النبي – صلى الله
عليه وسلم – ، يوم كانت المدينة تعيش قتالاً شرساً بين الأوس والخزرج ما
إن تهدأ ثائرتها قليلاً حتى تعود للاشتعال مرّة أخرى ، وانتهى الصراع على
اتفاقٍ بين الفريقين يقضي بنبذ الخلاف وتنصيب ابن سلول حاكماً على المدينة .
ووئدت
هذه الفكرة بدخول الإسلام إلى أرض يثرب ، وورود الناس حياض الشريعة ،
واجتماعهم حول راية النبي – صلى الله عليه وسلم - ، فصارت نظرة ابن سلول
لهذا الدين تقوم على أساس أنه قد حرمه من الملك والسلطان ، وبذلك كانت
مصالحه الذاتية وأهواؤه الشخصيّة وراء امتناعه عن الإخلاص في إيمانه والصدق
في إسلامه .
ومنذ
ذلك اليوم نصب ابن سلول العداوة الخفيّة للمسلمين ، مدفوعاً بالحقد الذي
تنامى في أحشائه ، والخبث الذي طبعت عليه نفسه ، فكرّس حياته لتقويض دعائم
الإسلام ودولته ، وانطلق ينفث سمومه للتفريق بين المسلمين ، وقد تفنّن في
صنع الافتراءات واختلاق الفتن ، وشنّ الحرب النفسية ، وزرع بذور الاختلاف ،
في الضوء حيناً ، وتحت جنح الظلام أحياناً .
وإطلالة
سريعة على تاريخ المدينة تكفي للوقوف على جانبٍ من الأراجيف التي أنشأها ،
والمؤامرات التي حاكها ، خلال سنينه السبع التي قضاها في الإسلام ، فيوم
أحد انسحب هذا المنافق بثلاثمائة من أصحابه قبيل اللقاء بالعدو ، وقد علّل
ذلك بقوله عن النبي – صلى الله عليه وسلم - : " أطاعهم فخرج وعصاني ، والله
ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس ؟ " ذكره الطبري في تاريخه .
وبعد
انتصار المسلمين على يهود بني قينقاع سارع ابن سلول في الشفاعة لحلفائه
كيلا يقتلهم رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فجاء إليه وقال : " يا محمد ،
أحسن في مواليّ " ، وكرّر ذلك على النبي – صلى الله عليه وسلم – وأمسكه من
ثيابه حتى ظهر الغضب في وجه النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد علّل إصراره
على هذا الموقف بقوله : " قد منعوني من الأحمر والأسود ، إني امرؤ أخشى
الدوائر " ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هم لك ) ، رواه ابن إسحاق في سيرته .
وفي
غزوة بني النضير قام عبدالله بن أبي بن سلول بتحريض حلفائه من اليهود على
قتال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعدم الاستسلام له ، ووعدهم بالنصرة
والمساعدة ، فأعلنوا الحرب ، وانتهى بهم الأمر إلى الجلاء من المدينة.
وفي
غزوة بني المصطلق ، استطاع ابن سلول - بدهاء ومكر شديدين - أن يحيك مؤامرة
دنيئة للطعن في عرض خير نساء النبي – صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي الله عنها ، وظل المسلمون يكتوون بنار هذه الفتنة شهراً كاملاً حتى نزلت الآيات الكريمات من سورة النور لتفصل في القضية .
ويوم
تبوك كان ابن سلول العقل المدبّر لفكرة " مسجد الضرار " ، وهو مسجد أسّسه
المنافقون ليكون مقرّهم السرّي الذي تصدر منه الفتن وتصنع فيه الأراجيف
لإثارة البلبة بين المسلمين .
وعلى
الرغم من المحاولات العديدة التي حاول فيها ابن سلول كتمان غيظه وبغضه
لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن معه من المؤمنين ، إلا أن فلتات
لسانه كانت تشير إلى حقيقة مشاعره الدنيئة ، كقوله لرسول الله عليه الصلاة
والسلام كما في الصحيحين : " إليك عني ، والله لقد آذاني نتن حمارك " ،
وقوله لمن حوله : " لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " ، وقوله
تعريضاً بالنبي – صلى الله عليه وسلم : " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن
الأعز منها الأذلّ " وكل ذلك مذكور في الصحيحين .
ومع كلّ فتنة كان يثيرها ، ونارٍ كان يشعلها ، تنزل الآيات تباعاً لتفضح مسلكه وتبيّن حقيقته ، كقوله تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } ( آل عمران : 186 ) ، وقوله تعالى : { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } ( المائدة : 52 ) ، وقوله عز وجل : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } ( المنافقون : 1 ) ، وغير ذلك من الآيات .
وقد
يتساءل البعض عن موقف النبي – صلى الله عليه وسلم – من ابن سلول ، كيف
تحمّله طيلة هذه السنوات ولم يأمر بقتله ؟ ، والجواب أن النبي – صلى الله
عليه وسلم – خشي أن يُشاع بين القبائل أن محمدا يقتل أصحابه ، حيث إن العرب
في أنحاء الجزيرة لم يكونوا يدركون تفاصيل المؤامرات التي تحدث في المدينة
، ولن يتمكّنوا من استيعاب مبرّرات العقوبات التي سيتّخذها رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – في حقّ ذلك المنافق ، والصورة التي ستصلهم حتماً صورة
مشوّهة ، حاصلها : أن سيّداً من سادات المدينة ووجهائها اعتنق الإسلام ،
ثم جاء الأمر بقتله ، ولا شكّ أن هذه الصورة المنقوصة ستشكّل حائلاً بينهم
وبين اعتناق هذا الدين .
وثمّة
سببٌ آخر لا يقلّ أهمّية عن سابقه ، وهو أن النبي – صلى الله عليه وسلم –
كان حريصاً على وحدة الصف الداخلي ، خصوصاً في المراحل الأولى من قدومه إلى
المدينة ، في وقتٍ كانت بذرة الإسلام في نفوس الأنصار لا تزال غضّةً طريّة
، فاختار النبي – صلى الله عليه وسلم – أسلوب المداراة والصبر على أذى ابن
سلول لتظهر حقيقة الرجل من خلال تصرّفاته ومواقفه ، وقد أثمر هذا الأسلوب
بالفعل ، حيث وجد ابن سلول العتاب والبغض في كلّ موقفٍ من مواقفه ، وكان
ذلك على يد من كانوا يرغبون في تتويجه ملكاً عليهم في السابق ، فنبذه أهله
وأقرب الناس إليه .
ولا أدلّ على ذلك من موقف ولده عبدالله بن عبدالله بن أبي رضي
الله عنه ، والذي كان من خيرة الصحابة ، وقد قال يوماً للنبي – صلى الله
عليه وسلم - : " يا رسول الله ، والذي أكرمك ، لئن شئت لأتيتك برأسه " ،
فقال له : ( لا ، ولكن برّ أباك وأحسن صحبته ) رواه البزار .
وتدور
عجلة الأيام ، والمسلمون في معاناتهم من أذى النفاق ومكائده ، حتى حانت
اللحظات الأخيرة من حياة ابن سلول ، ففي أواخر شهر شعبان يسقط على فراشه
ويقاسي آلام المرض وشدّة الموت ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لا يكفّ عن
زيارته والسؤال عن حاله بالرغم من عداوته له .
ولعل
النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد بذلك أن يتألف قلب هذا المنافق ، لعلّه
يلين إلى ذكر الله ، والقلوب بين أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء ، إضافةً
إلى كون ذلك فرصةً فاعلة لدعوة أتباعه وأوليائه .
وتروي
لنا كتب السيرة تفاصيل اليوم الأخير من حياة ابن سلول ، فقد دخل عليه
النبي – صلى الله عليه وسلم – يزوره ، فطلب ابن سلول من النبي عليه الصلاة
والسلام أن يعطيه ثوبه ليكون كفناً له ، وإنما فعل ذلك ليدفع به العار عن
ولده وعشيرته بعد موته – كما قال الإمام ابن حجر -
، ولم يكن من عادة النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يردّ سائلاً أبداً ،
فأعطاه قميصه ، كرماً منه وفضلاً ، و مكافأة له لما كان منه يوم بدرً ، فقد
استعار النبي – صلى الله عليه وسلم – من ابن سلول قميصه يوم بدر ليعطيه
عمّه العباس رضي الله عنه ، وقد كان العباس طويلاً فلم يكن يناسبه إلا قميص ابن سلول .
وجاء عبدالله بن عبدالله بن أبي رضي
الله عنه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : " يا رسول الله ، أعطني
قميصك أكفنه فيه ، وصلّ عليه ، واستغفر له " ، فأعطاه النبي عليه الصلاة
والسلام قميصه ، وقام ليصلّي عليه ، فلما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك أسرع إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال له : " أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين ؟ " ، فقال له : ( إني خُيّرت فاخترت ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها ) يعني قوله تعالى : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } ( التوبة : 80) فقد جاءت الآية بالتخيير بين الاستغفار وعدمه ، فلما صلى عليه نزلت الآية الأخرى وهي قوله تعالى : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } ( التوبة : 84 ) .
وبموت
عبدالله بن أبي بن سلول انحسرت حركة النفاق بشكل كبير ، وتراجع بعض
أفرادها عن ضلالهم ، في حين اختار البعض الآخر البقاء على الكفر الذي
يضمرونه ، والنفاق الذي يظهرونه ، لا يعرفهم سوى حذيفة بن اليمان صاحب سرّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق