عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الحلال بيّن والحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وأن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ) رواه البخاري ومسلم
الشرح
جاء الكلام في هذا الحديث العظيم عن قضيتين أساسيتين هما تصحيح العمل وسلامة القلب وهاتان القضيتان من الأهمية بمكان فإصلاح الظاهر والباطن يكون له أكبر الأثر في استقامة حياة الناس وفق منهج الله القويم .
على أن وجود هذه المشتبـهات لا ينـافي ما تقرر في النصوص من وضوح الدين كقول الله عزوجل ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وقوله يبين الله لكم أن تضلّوا والله بكل شيء عليم وكذلك ما ورد في السنة النبوية نحو قوله صلى الله عليه وسلم تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك فهذه النصوص وغيرها لا تنافي ما جاء في الحديث الذي بين أيدينا وبيان ذلك أن أحكام الشريعة واضحة بينة وبعض الأحكام يكون وضوحها وظهورها أكثر من غيرها أما المشتبهات فتكون واضحة عند حملة الشريعة خاصة وخافية على غيرهم ومن خلال ذلك يتبين لك سر التوجيه الإلهي لعباده في قوله فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون لأن خفاء الحكم لا يمكن أن يعم جميع الناس فالأمة لا تجتمع على ضلالة
وفي مثل هذه المشتبهات وجه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى سلوك مسلك الورع وتجنب الشبهات فقال فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه فبين أن متقي الشبهات قد برأ دينه من النقـص لأن من اجتنب الأمور المشتبهات سيجتنب الحرام من باب أولى كما في رواية أخرى للبخاري وفيها فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك وإضافة إلى ذلك فإن متقي الشبهات يسلم من الطعن في عرضه بحيث لا يتهم بالوقوع في الحرام عند من اتضح لهم الحق في تلك المسألة أما من لم يفعل ذلك فإن نفسه تعتاد الوقوع فيها ولا يلبث الشيطان أن يستدرجه حتى يسهل له الوقوع في الحرام .
وبهذا المعنى جاءت الرواية الأخرى لهذا الحديث ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان وهكذا فإن الشيطان يتدرج مع بني آدم وينقلهم من رتبة إلى أخرى فيزخرف لهم الانغماس في المباح ولا يزال بهم حتى يقعوا في المكروه ومنه إلى الصغائر فالكبائر ولا يرضى بذلك فحسب بل يحاول معهم أن يتركوا دين الله ويخرجوا من ملة الإسلام والعياذ بالله وقد نبه الله عباده وحذرهم من اتباع خطواته في الإغواء فقال عزوجل في محكم كتابه يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر فعلى المؤمن أن يكون يقظا من انزلاق قدمه في سبل الغواية متنبها إلى كيد الشيطان ومكره .
ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا لإيضاح ما سبق ذكره وتقريبا لصورته في الأذهان فقال كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه أي كالراعي الذي يرعى دوابه حول الأرض المحمية التي هي خضراء كثيرة العشب فإذا رأت البهائم الخضرة في هذا المكان المحمي انطلقت إليها فيتعب الراعي نفسه بمراقبة قطعانه بدلا من أن يذهب إلى مكان آخر وقد يغفل عن بهائمه فترتع هناك بينما الإنسان العاقل الذي يبحث عن السلامة يبتعد عن ذلك الحمى كذلك المؤمن يبتعد عن حمى الشبهات التي أُمرنا باجتنابها ولذلك قال ألا وأن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقا وقد حمى الشريعة بسياج محكم متين فحرم على الناس كل ما يضرهم في دينهم ودنياهم .
وسمّي القلب بهذا الاسم لسرعة تقلبه ، كما جاء في الحديث لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانا ... لذلك كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ... يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك ... وعلاوة على ما تقدم فإن مدار صلاح الإنسان وفساده على قلبه ولا سبيل للفوز بالجنة ونعيم الدنيا والآخرة إلا بتعهد القلب والاعتناء بصلاحه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ومن أعجب العجاب أن الناس لا يهتمون بقلوبهم اهتمامهم بجوارحهم فتراهم يهرعون إلى الأطباء كلما شعروا ببوادر المرض ولكنهم لايبالون بتزكية قلوبهم حتى تصاب بالران ويطبع الله عليها فتغدو أشد قسوة من الحجارة والعياذ بالله .
والمؤمن التقي يتعهد قلبه ويسد جميع أبواب المعاصي عنه ويكثر من المراقبة لأنه يعلم أن مفسدات القلب كثيرة وكلما شعر بقسوة في قلبه سارع إلى علاجه بذكر الله تعالى حتى يستقيم على ما ينبغي أن يكون عليه من الهدى والخير نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا ويصرفها على طاعته وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه والحمد لله رب العالمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق