Our Blog

غزوه حنين .وصوره من صور اعجاب المرء بنفسه

إعداد الرسول لحرب هوازن

غزوة حنينلقد نقلت المخابرات الإسلامية بسرعة إلى الرسول أخبار هوازن، واستعدادها للحرب، وكان الرسول وقتئذٍ في مكة، فأرسل الرسول مباشرة الصحابي الجليل عبد الله بن أبي حَدْرَد الأسلميّ ؛ ليتأكد من الخبر، فجاء بتأكيد ذلك، كما ذكر أحد المسلمين لرسول أن هوازن قد جاءت على بكرة أبيهم بنسائهم ونعمهم وشائهم. وكان رد فعل الرسول جميلاً جدًّا، فقد تبسم وقال: "تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
يقين في النصر، وبدأ الرسول في إعداد العُدَّة لهذا الموقف الخطير، وكان إعداده فعلاً على أعلى مستوى.
أولاً: قرر الخروج للقتال في مكان متوسط بين هوازن ومكة، فقد آثر ألاّ ينتظر بمكة. وفي ذلك حكمة كبيرة جدًّا؛ لأنه لو بقي في مكة وغزاها مالك بن عوف بجيشه، فقد يتعاون أهل مكة معه. ونحن نعلم أن أهل مكة حديثو عهد بشركٍ وجاهلية، وهذه كارثة؛ لأن الحرب بذلك ستصبح من الداخل والخارج، ومن ثَمَّ فضَّل الرسول أن يخرج بجيشه إلى مكان مكشوف بعيد عن مكة.
ثانيًا: قرر أن يخرج بكامل طاقته العسكرية، ويأخذ معه العشرة آلاف مقاتل الذين فتح بهم مكة من قبل؛ لأن أعداد هوازن ضخمة وكبيرة.
ثالثًا: أخذ معه من داخل مكة المكرمة المسلمين الطلقاء الذين أسلموا عند الفتح، وفي ذلك بُعد نظر كبير من الرسول ؛ فهؤلاء إن تركوا في مكة، قد ينقلبون إلى الكفر مرة ثانية، وقد ينفصلون بمكة عن الدولة الإسلامية، وخاصةً إذا تعرض المسلمون لهزيمة من هوازن. ومعنى خروجهم مع المسلمين أن الرسول يقربهم، ويثق فيهم، وهذا أدعى إلى تثبيت أقدامهم في الإسلام، هذا إضافةً إلى وجود غنائم كثيرة، والرسول قال: "تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ".
فإذا أعطاهم من هذه الغنائم، سيكون ذلك تأليفًا لقلوبهم، أضف إلى ذلك أيضًا أن أعدادهم الكبيرة ستلقي الرهبة في قلوب هوازن. ولا شك أن قريشًا لها مكانة في قلوب العرب، فعندما يخرج منها عدد في داخل هذا الجيش، ستقع الرهبة في قلوبهم، ويكون النصر حليفًا للمسلمين؛ فالرسول من أجل ذلك كله أخذ معه من مكة ألفين من الطلقاء، وأصبح الجيش الإسلامي بعد إضافة الألفين اثني عشر ألفًا، وهذا أكبر عدد في تاريخ المسلمين حتى الآن.
رابعًا: لم يكتفِ الرسول بسلاح الجيش الإسلامي الذي فتح به مكة المكرمة، مع كون هذا السلاح من الأسلحة الجيدة والقوية جدًّا، بدليل انبهار أبي سفيان به عند رؤيته للجيش الإسلامي. ومع ذلك لم يكتفِ به ، كما لم يكتفِ بسلاح المسلمين من الطلقاء، وإنما سعى إلى عقد صفقة عسكرية كبرى لتدعيم الجيش الإسلامي؛ فقد ذهب بنفسه إلى تجار السلاح في مكة المكرمة، وكان على رأس هؤلاء التجار صفوان بن أمية، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وكان هذان الاثنان لا يزالان على شركهما وقتئذ، فطلب منهما السلاح على سبيل الاستعارة بالإيجار والضمان، حتى إن صفوان بن أمية سأل الرسول وهو لم يزل على كفره: أغصبٌ يا محمد؟ فقال : "بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ".
أي أنا أستعيرها بالإيجار، وأضمن عند ضياع بعضها أن أعوِّضك عن هذا الفاقد. هذا مع أن الرسول هو الزعيم المنتصر، وصفوان بن أمية هو أحد القادة المهزومين، لكن الرسول كان عادلاً في كل أموره، لم يكن يستحلّ مال مُعاهَدٍ بأية صورة من الصور. وصفوان كما نعلم كان في عهد الرسول مدة أربعة أشهر يفكر فيها في أمر الإسلام، كما ذكرنا ذلك من قبل.
والشاهد في هذه القصة أن إعداد الجيش الإسلامي كان على أفضل الصور الممكنة، والجدير بالذكر هنا أن الرسول اصطحب معه في هذه الغزوة بعض المشركين، كان منهم صفوان بن أمية، ونوفل بن الحارث تجار السلاح في مكة المكرمة؛ وذلك لكي يحموا أسلحتهم، ويحملوها للمسلمين. وقد يسأل بعضنا: لماذا قبل الرسول أن يستعين بالمشركين في هذه المعركة، ورفض أن يستعين بهم في بدر قبل ذلك، وقال : "فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ"؟
الجواب أن الظرف كان مختلفًا، فالنصر في بدر كان من الممكن أن يُنسب للمشركين لقلة أعداد المسلمين، وعدم استقرار دولتهم، أما الآن فلا يدَّعِي أحد أبدًا أن نصر المسلمين وعددهم اثنا عشر ألف مقاتل، كان بسبب الأفراد المشركة المعدودة في الجيش الإسلامي؛ ولهذا فالرسول لم يرَ مشكلة أن يأخذ معه بعض المشركين. ويجب أن نضع في اعتبارنا أن هؤلاء المشركين لن يأخذوا من الغنيمة، ولكن سيعطيهم أجرًا على عملهم هذا بالاتفاق.
خامسًا: اهتم الرسول اهتمامًا كبيرًا بالحراسة الليلية للجيش الإسلامي، لئلاّ يُباغت فجأة، ووضع عليها أنس بن أبي مرثد .
سادسًا: اهتم الرسول كثيرًا بالحالة المعنوية للجيش الإسلامي، فقد بشرهم كما ذكرنا أن جيوش هوازن ستصبح غنيمة للمسلمين إن شاء الله. ولا ننسى أن المسلمين قد ذهبوا إلى حُنَيْن ومعنوياتهم مرتفعة؛ لأنهم قد حققوا انتصارًا عظيمًا مهيبًا منذ أيامٍ عندما فتحوا مكة المكرمة، وهي من أعظم المدن وأشرف الأماكن. ومما سبق يتبين لنا أن إعداد المسلمين لمعركة حُنَيْن كان إعدادًا قويًّا متقنًا، ومن الواضح أن المسلمين قد أخذوا بكل الأسباب المادية المتوفرة عندهم، وكان جيشهم بالفعل في أبهى صورة عندما خرجوا من مكة المكرمة.


الجيش الإسلامي يتوجه إلى وادي حنين

وتوجه الجيش الإسلامي إلى وادي حُنَيْن حيث جموع هوازن هناك في 6 من شوال سنة 8 هجرية، ووصل يوم 10 من شوال سنة 8 هجرية، وفي أثناء الطريق -وهذه نقطة مهمة جدًّا- والجيش يمشي في صورته البهية، قال بعض المسلمين الجدد من الطلقاء كلمة تعبِّر عن مرض خطير سَرْعان ما انتشر في الجيش بكامله بلا استثناء، كما تنتشر النار في الهشيم. وهذه الكلمة كانت في ظاهرها تبدو كأنها بسيطة، ولكن كان لها من الأثر ما لم يتخيله المسلمون قَطُّ، قال المسلمون: لن نُغْلَب اليوم من قلة.
هذه أفضل عدة كما ذكرنا سار فيها المسلمون، فإذا كانوا قد فتحوا مكة وانتصروا على قريش بعشرة آلاف، فلا شك أنهم سينتصرون على هوازن في حُنَيْن باثني عشر ألف مقاتل. هكذا اعتقد المسلمون، بل صرحوا بذلك، وهذا ليس بكلام فقط، وإنما هو أمر قلبي خرج على ألسنتهم. وعندما قال المسلمون هذه الكلمة، شقَّ ذلك على رسول الله ، وظهر على وجهه الحزن، وشعر أن أمرًا خطيرًا سيحدث، ومشكلة كبرى ستقع لهذا الجيش الكبير، ولكن لماذا كل هذه التداعيات الكبيرة لهذه الكلمة البسيطة؟! الحقيقة أن الجملة في ظاهرها صحيحة، في تركيبها ومعناها، بل إن هذه الجملة مستنبطة من حديث لرسول الله ، إذ قال : "ولاَ يُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ".

وهذا نفس معنى الجملة تقريبًا. ومعنى الحديث أن الجيش الذي وصل إلى اثني عشر ألف مقاتل لن يهزم بسبب قلة العدد، لكن من الممكن أن يهزم لأسباب أخرى؛ فقد يهزم لأسباب مادية، أو أسباب قلبية. أي اثني عشر ألف جندي، لكن ليس هناك إعداد عسكري، أو قوة سلاح، أو عندهم خلل في الخطة، أو عدم مهارة في القيادة، أو غير ذلك من الأمور المادية. هذه الأشياء كلها من الممكن أن تكون سببًا في الهزيمة، ولكن يجب أن نعلم أن هذا الإعداد كان على أعلى مستوى، ولكن ليست هذه هي المشكلة، فمن الممكن أن نُغلب لأسباب قلبية، وهذا أمر خطير للغاية. لقد قال الجيش الإسلامي هذه الكلمة تعبيرًا عن مرض قلبي خطير، فاسمعوا هذا الكلام، ودقّقوا فيه كثيرًا، هذا المرض هو العُجْب بالنفس وبالعدد وبالإعداد المادي، هذا المرض هو الاعتماد على الأسباب، ونسيان رب الأسباب، هذا المرض هو الظن أنني أنا الذي فعلت، وليس الله الذي فعل.
لا شك أن الصحابة، وغيرهم من الصالحين لو سُئلوا سؤالاً مباشرًا: هل النصر من عندك أم من عند الله؟
فلا شك أن الجميع سيجيب وبلا تردد: بل هو من عند الله .
لكن هذا الشعور الخفي، شعور الإعجاب بالنفس والغرور، يتسلل إلى النفس بلطف شديد، لا يشعر به المؤمن، إلا وقد تفاقم. ومن الجدير بالذكر أن الإعجاب بالنفس ليس هو الثقة بالنفس، فالثقة بالنفس أمر محمود، والإعجاب بالنفس أمر مذموم، والثقة بالنفس أمر مطلوب لكي ينتصر الجيش، ولن ينتصر جيش أو ينجح عمل بغير الثقة بالنفس، لكن لا يجب أن تزيد الثقة بالنفس حتى تصل إلى درجة التوكل على النفس، وليس التوكل على الله . والفارق بين الثقة بالنفس والإعجاب بالنفس شعرة، والموفَّق من وفقه الله .
لقد كان من الواضح من كلام الذين قالوا: لن نغلب اليوم من قلة، أنها تعبر عن ثقة زائدة عن الحد بالنفس؛ فلذلك حزن الرسول حزنًا شديدًا ظهر على وجهه، ولو قيلت الجملة نفسها على سبيل تبشير المسلمين، وطمأنتهم لكانت جملة مناسبة وجميلة ومستحسنة، لكن ذلك لم يحدث، فقد أعجب المسلمون بعددهم، وتوكلوا على كثرتهم، وهذا هو المرض الذي ذكره ربنا I في كتابه الكريم في حق هؤلاء فقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} 

 
العجب بالكثرة، ولا يقولَنَّ أحد أبدًا: إن هذا المرض كان عند الطلقاء حديثي الإسلام فقط، لا -للأسف الشديد- بل المرض قد انتقل من الطلقاء إلى عامة أفراد الجيش الإسلامي حتى وصل إلى معظم السابقين، وهذا أمر خطير، وسنرى أثر هذا الكلام بعد قليل. والأمراض القلبية كالعجب، والكبر، وحب الدنيا، والحسد، أمراض معدية بالفعل، إذا ظهرت في طائفة، ولم تعالج جيدًا، تنتشر كالوباء؛ فلذلك كان دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمًّا في علاج هذه الأمراض.
وقد كان واضحًا أن هذا الدور لم يتم على الوجه الأكمل في هذه المعركة، فحدث ما حدث، وانتشرت الكلمة في الجيش كله، وكان من الواضح أيضًا أن هذه الكلمة الخطيرة لها أثر في كل الناس. وهذا غريب! البعض يؤثر في الكل، نَعَمْ البعض قد يؤثر في الكل، فهذا البعض القليل قد يؤثر في الكل الكثير؛ فلذلك من الخطر بمكان أن يخرج ضعيف الإيمان في وسط الجيش المؤمن، ولولا ظروف مكة حديثة الإسلام، وخطورة انقلاب مكة، كما ذكرنا في بداية التحليل، لكان من الأفضل ألاّ يخرج للقتال متذبذب الإيمان، ولكن كانت هذه ظروف قهرية، اضطر المسلمون فيها إلى اصطحاب الطلقاء؛ ولذلك يقول ربنا في كتابه الكريم: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
نعم عامة الطلقاء لم يكونوا منافقين محترفي النفاق، ولكنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية، ولم يمروا بتجارب إيمانية كافية، ولم يعيشوا في المحاضن التربوية إلا قليلاً، وكان هذا الأمر متوقعًا منهم فعلاً، ولكن الأخطر أن الله I يقول في الآية نفسها: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}

فقد استمع المسلمون السابقون إلى هذه الكلمات، وتأثروا بها، وقد مر بنا مواقف مشابهة قبل ذلك في غزوة أُحد، وسيمر بنا مرة أخرى في غزوة تبوك، وسنتحدث عنها بتفصيل أكثر عندما نتكلم عن تبوك إن شاء الله. المهم أنه في هذا المقام أن الجيش الإسلامي اتجه إلى حُنَيْن، وهو متيقن أن النصر حليفه، ليس لأن الله معه، ولكن لأنه كثير العدد. هكذا بصراحة، فهذا المرض القلبي الخطير قاد إلى شيء خطير آخر، هو الثقة الزائدة بالنفس، مما يدفع الإنسان إلى عدم الاكتراث بقوة عدوه، وعدم التأكيد على سير العملية العسكرية بالصورة التي ينبغي أن تكون عليها، وظهر بعض القصور في أداء المسلمين. وقد رأينا أداء المسلمين على أحسن صورة، عندما كانوا معتمدين تمام الاعتماد على الله I، قبل أن ينطقوا بهذه الكلمة، فقد خرجوا من مكة المكرمة بعدة بهية، وجيوش قوية، وبإعداد على أحسن مستوى، ولكن عندما أُعْجبنا بالكثرة بدأنا نقلل من الاهتمام بالتفاصيل، والمخابرات الإسلامية لم تتعامل مع الوضع الجديد بدقة كافية، ومن ثَمَّ لم تكتشف العيون الإسلامية الكمائن التي زرعها مالك بن عوف حول وادي حُنَيْن، وبالتالي سنرى الجيش الإسلامي يدخل في منطقة شديدة الخطورة دون دراسة كافية.
وفوق ذلك كانت خطوات الجيش الإسلامي متثاقلة، وهو في طريقه إلى حُنَيْن، فقد قطع المسافة القصيرة في فترة طويلة؛ فالجيوش في ذلك الوقت كانت عادتها أن تقطع في اليوم الواحد حوالي خمسين كيلو مترًا. وقد رأينا أن الجيش الإسلامي توجه من المدينة إلى مكة المكرمة لكي يفتحها في عشرة أيام، والمسافة بينهما 500 كيلو متر تقريبًا، أي بمعدل خمسين كيلو مترًا في اليوم، وهذا معدل طبيعي جدًّا، يزيد أحيانًا أو يقل لاختلاف الظروف، لكن يبقى المعدل حوالي 50 كيلو مترًا. ولكن هنا في قصة حُنَيْن الجيش الإسلامي قطع مسافة 20 كيلو مترًا فقط في ثلاثة أو أربعة أيام، تخيل الجيش خرج في 6 شوال، ووصل إلى حُنَيْن في 10 شوال، ومن المفروض أنه يقطع هذه المسافة في نصف يوم فقط، ولكنه قطعها في ثلاثة أو أربعة أيام.
هذا التأخير في الحركة مرجعه في الأساس عدم الاكتراث بالعدو؛ لشدة الثقة في النفس. وبالطبع هذا أمر خطير، ومن ثَمَّ وصل مالك بن عوف بجيشه إلى وادي حُنَيْن قبل المسلمين، وبالتالي نشر قواته في الأماكن المناسبة، واحتل المواقع الاستراتيجية، واستراحت جيوشه بصورة كافية قبل اللقاء، وكل ذلك كان في صالح المشركين. وعندما نرجع بالذاكرة إلى الوراء قليلاً، وبالتحديد في غزوة بدر، نجد أن المسلمين عندما وصلوا إلى أرض القتال قبل المشركين استطاعوا أن يأخذوا الأماكن المناسبة، واحتلوا المواقع الاستراتيجية، وكان هذا سببًا من أسباب النصر.


الجيش الإسلامي في حُنَيْن لزيادة الثقة بالنفس وللعُجْب بالعدد، اندفع إلى سهل حُنَيْن دون تروٍّ، ولم يضع أية حماية لخلفية الجيش الإسلامي قبل أن يدخل في وادي حُنَيْن، ولم ينظر إلى الكمائن، وألقى بثقله الكامل في الوادي، وهذا خطأ عسكري فادح. وفي الحقيقة عندما نحلل هذه المعركة نعجب جدًّا من وجود هذه الأخطاء؛ لأن الجيش فيه كفاءات عسكرية هائلة؛ فالجيش يقوده الرسول بحكمته العسكرية المعروفة، وبدقته في إدارة الأمور، ويضم بين صفوفه خالد بن الوليد، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعلي بن أبي طالب، والحُبَاب بن المنذر، وسعد بن أبي وقاص، وأبا عبيدة بن الجراح، وغيرهم من العمالقة العسكريين، فكيف يحدث هذا القصور؟!
الحقيقة أن هذا الكلام ليس له عندي إلا تفسير واحد، وهو أن الله I يريد أن يلفت الأنظار إلى الخطأ القلبي الخطير الذي أصيب به المسلمون؛ فلذلك حجب الرؤية عنهم، فوقعوا في أخطاء لا يقعون فيها أبدًا في الظروف العادية، ولو أن هذه المعركة تكررت ألف مرة لا يمكن للمسلمين أبدًا أن يقعوا في هذه الأخطاء، ولكنه أمر الله I؛ ولذلك فربنا I لم يُرِد للرسول أن يقول خطبة أو كلمة تُشعِر المسلمين بالمأساة التي ستحدث لهم إذا أصيبوا بداء العجب؛ لأنهم لو خرجوا من المشكلة بكلمة أو خطبة ولم يصابوا بمصابٍ فادح، سيتسلل المرض أكثر وأكثر إلى قلوبهم، فلا بد من مصيبة تهز المسلمين، وتوضح لهم الرؤية، والصورة تمام الوضوح؛ فمصيبة واحدة مثل هذه المصائب تترك أثرًا تربويًّا أعمق من الأثر الذي تتركه ألف خطبة.
ومن أجل ذلك لم يكن هناك وحي في هذه القضية ينبِّه المسلمين إلى خطورة ما هم مقبلون عليه، فربنا I أراد أن يذيق المسلمين النتيجة المُرَّة لمرضهم الخطير، وهذا أبلغ في تربية هؤلاء المسلمين، وفي تربيتنا. ولا شك أن غزوة حُنَيْن بما حدث فيها من أزمات ما زالت محفورة في أذهان المسلمين إلى الآن، وستظل كذلك إلى يوم القيامة؛ فلذلك سجلها المولى تبارك وتعالى في كتابه الكريم إلى يوم الدين؛ كي لا ينسى المسلمون أبدًا هذه الأزمة، ولكن ماذا حدث في حُنَيْن؟


يوم حنين ودرس لا ينسى

لقد حدثت كارثة، فما هي إلا دقائق من دخول الجيش الإسلامي في وادي حُنَيْن، حتى انهالت عليه الأسهم والرماح من كل مكان، وثارت خيول هوازن في وجوه المسلمين، وخرجت فرق هوازن من هنا وهناك، وأحيط بالمسلمين من كل مكان، فخارت عزائمهم في لحظات.
سبحان الله! عمالقة في الحروب فترت همتهم جميعًا إلا أقل القليل، وأخذ معظم الجيش قرارًا واحدًا في لحظة واحدة، وهو الفرار، الفرار العشوائي في أي اتجاه، ليسوا متحرِّفين لقتال، أو متحيزين إلى فئة، لا مقاومة، لا محاولة، لا تفكير، لا شيء إلا الفرار، صدمة في غاية القسوة. وإنني أرى أن صدمة حُنَيْن أشد من صدمة أُحد؛ ففي أُحد خالف بعض رجال الجيش، وثبت بعضهم، وقاتل بعضهم حتى الشهادة، أما هنا فلم يثبت من المسلمين إلا عشرة أو اثني عشر من الرجال فقط، من أصل اثني عشر ألف مقاتل، وهذا يعنى ثبات واحد من كل ألف، أي نسبة الثبات واحد في الألف في الجيش الإسلامي في حُنَيْن، وهذه كارثة خطيرة.
أزمة خطيرة طاحنة، فقد شعر المسلمون أن الصحراء الواسعة أصبحت ضيقة جدًّا لا تسمح بالفرار، ولسان حالهم جميعًا يقول: نفسي نفسي. وتأمل كلام الله I وهو يصف حالة الجيش الإسلامي في أول لحظات يوم حُنَيْن، إذ يقول: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} 
مصيبة حقيقية أن ينزع الله نعمة الثبات من فرد أو جماعة أو جيش أو أمة، فالثبات هبةٌ من رب العالمين I، وهو القائل: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
وكل الناس تحتاج إلى الثبات حتى الأنبياء، وانظر إلى قول الله : {وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [الإسراء: 74].
واللهُ لا يُعطي الثبات إلا لمن ارتبط به حقًّا، وكان خالص النية، سليم القلب، حسن العمل. وكان الموقف يوم حُنَيْن مذهلاً بالفعل، فيُروَى أن أبا قتادة الخزرجي لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فقال له في ذهول: ما بال الناس؟! فلم يجد عمر ردًّا إلا أن قال: أمر الله
ولعلَّ هذا من أعمق الدروس في تاريخ الصحابة أجمعين، وهذا درس لا ينسى، وقد نفعهم بعد ذلك، ولسنوات طوال في حروب كثيرة دارت مع الفرس والروم وغيرهما من أجناس الأرض، وما فر المسلمون الذين شهدوا حُنَيْنًا بعد ذلك؛ فكلهم أيقنوا وفقهوا جيدًا أن النصر ليس بالعدد، ولا بالعدة، وإنما بنصر ربِّ العالمين للجيش. وعمر بن الخطاب الذي كان مذهولاً ذلك اليوم، لا يدري ماذا حدث للمسلمين، أدرك على الفور سبب الفرار، وخلفيات الهزيمة، واحتفظ بالدرس العظيم، مع أنه كان ممن ثبتوا ولم يفر قدر أنملة . وبعد سنوات طويلة من غزوة حُنَيْن أرسل عمر بن الخطاب رسالة إلى جنوده في فارس، يشرح لهم أسباب النصر مبنية على ما حدث في يوم حُنَيْن، إذْ قال في رسالته المشهورة: إنكم لا تُنصرون على عدوِّكم بقوة العدة والعتاد، إنما تنصرون عليه بطاعتكم لربكم ومعصيتهم له، فإن تساويتم في المعصية، كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العدة والعتاد.
وهذا ما شاهده في يوم حُنَيْن، فقد رأى أن الغلبة أصبحت لهوازن على المسلمين بقوة العدة والعتاد؛ لأن المسلمين كما ذكرنا اثنا عشر ألفًا، والمشركين أكثر من خمسة وعشرين ألفًا، ولا ينصر القلة على الكثرة إلا بعون الله وإرادته، قال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
وقد ولَّى المسلمون كلهم يوم حُنَيْن مدبرين إلا القليل.


مواقف الطلقاء يوم حنين

في هذا الموقف الصعب تباينت مواقف الطلقاء، فمنهم من صرّح بكفره بعد أن كان متظاهرًا بالإسلام، مثل كَلَدَة بن الحنبل، ولكنه أسلم بعد ذلك وله صحبة، فهذا الرجل قال في ذلك الوقت: ألا بطل السِّحْر اليوم.
فهو يتهم الرسول بالسحر، مع أنه خارج مع المسلمين على أنه مسلم. ومنهم من لم يكتفِ بالكفر، بل حاول قتل الرسول مثل شيبة بن عثمان، وبفضل الله أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه. ومنهم من أظهر الشماتة دون أن يظهر الكفر كأبي سفيان زعيم مكة الذي قال: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر
فقد فرح بهزيمة المسلمين؛ لأنه لم يكن قد ثبت على الإسلام حتى هذه اللحظة، ولكن بعد ذلك -ولله الحمد- حسن إسلامه. ومنهم من تردد في الأمر فلم يعرف أين الحقيقة مثل سهيل بن عمرو، ومنهم من ثبت على الإسلام ولم يمضِ على إسلامه أسبوعين أو ثلاثة ولم يتردد لحظة، مثل عكرمة بن أبي جهل . وتعالَوْا بنا لكي نرى الفهم الراقي عنده ، وفهمه للإسلام وللنصر وللهزيمة، في حوار لطيف جدًّا دار بينه وبين سهيل بن عمرو في أثناء فرار المسلمين يوم حُنَيْن، فقد قال عكرمة عندما رأى فرار المسلمين: هذا بيد الله، ليس إلى محمد منه شيء.
أي ليس هو السبب، أي أن النصر والهزيمة بيد الله ، وهذا ليس معناه عدم صدق محمد . ثم قال كلمة جميلة جدًّا، لا ينطق بها إلا من عاش سنوات وسنوات في الإسلام، قال: إن أُدِيل عليه اليوم، فإن له العاقبة غدًا.
يا الله! الأيام دول، فإذا هُزم اليوم، فلا شك أن النصر سيكون حليفه غدًا أو مستقبلاً، وذلك مثل قول ربنا I في كتابه: {وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
وهذا الرجل لم يسلم إلا منذ أسبوعين أو ثلاثة، وهذا اليقين قد أدهش سهيل بن عمرو الذي قال له: والله إن عهدك بخلافه لحديث.
أي أنت لم تسلم إلا منذ وقت قصير، كنت قبلها تعبد هبل، فكيف توقن هذا اليقين في صدقه، وأنت إلى أيام قليلة سابقة كنت على خلاف دينه؟
فقال عكرمة في وضوح وفي فَهْمٍ: يا أبا يزيد، إنا كنا على غير شيء، وعقولنا ذاهبة، نعبد حجرًا لا يضر ولا ينفع.
كما رأينا تباينت مواقف الناس، والغالب الأعم منهم قد فرَّ من أرض المعركة إلا قليلاً ثبت فيها. وفي رأيي أن هذه المعركة كانت شديدة الشبه بمعركة أُحد، فكلاهما كانا مصيبة ولمرض قلبي؛ ففي أُحد كان حب الدنيا، وفي حُنَيْن العُجب بالنفس، ولكن الفارق بين أُحد وحُنَيْن أن أحداث الموقعتين وقعت بصورة معكوسة؛ ففي أُحد بدأت المعركة بنصر المسلمين ثم حدثت المصيبة، وفي حُنَيْن بدأت المعركة بمصيبة للمسلمين، ثم حدث النصر لهم. ولكن كيف تم النصر للمسلمين مع وجود هذه الأزمة الطاحنة؟ وكيف خرج المسلمون من هذه الكارثة؟

هناك تعليق واحد:

Designed by Templateism | MyBloggerLab | Published By Gooyaabi Templates copyright © 2014

صور المظاهر بواسطة richcano. يتم التشغيل بواسطة Blogger.