كل يوم معلومه سريعه
قال تعالى:
" إِنَّا
فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن
ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا
مُّسْتَقِيمًا
"
لو ســــــــــألوك
كيف يغفر الله ذنباً تقدم لمن هو معصوم من الخطأ؟
أليس الرسول صلى الله عليه وسلم معصوماً من الخطأ؟ فكيف ارتكب ذنبا؟
أليس الرسول صلى الله عليه وسلم معصوماً من الخطأ؟ فكيف ارتكب ذنبا؟
فجزاك الله خيراً أيها الأخ السائل على سؤالك زادك حرصاً وبارك فيك
واعلم رعاك الله أن الجواب عن هذه المسألة من جانبين
أما الجانب الأول: وهو مسألة عصمة الأنبياء،
فقد اتفقت الأمة على
أن الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام معصومون في أمر الرسالة، وأنهم لا
تقع منهم الكبائر، وكذا الصغائر التي تحطُّ من قدرهم وتزري بفاعلها، قال الإمام
ابن بطال رحمه الله في شرح البخاري: أجمعت الأمة على أنهم معصومون في الرسالة،
وأنه لا تقع منهم الكبائر أهـ، أما باقي الصغائر ففي عصمتهم منها خلاف بين
العلماء: فقد ذهب بعض المحققين إلى عصمتهم من الجميع، وتأولوا وقوع هذا منهم على
سبيل السهو أو أن الله أذن لهم فيها وأنهم أشفقوا من المؤاخذة فيها، وذلك حتى
يكونوا أهلا للبلاغ عنه، ومحلاً لتلقي الوحي، ولِيحسن اتباع الناس لهم، وإلا لما
صحَّ اتباعنا لهم،
وصحَّح هذا الرأي القاضي عياض رحمه الله.
الجانب الثاني: وهو قوله تعالى:
{ليغفر
لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر...الآية}، وهو استشكال مَفاده أن الله تعالى قد تكفل بمغفرة ذنوبه صلى الله
عليه وسلم، فكيف يغفر الله ذنب نبيه صلى الله عليه وسلم وهو معصوم من الخطأ؟
والجواب
على هذا من وجوه:
الأول
قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر والصغائر كلها على
التحقيق كما أسلفنا
الثاني
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق، وقد منحه الله
تعالى المنح العظيمة، وأعطاه الدرجة العالية والمنزلة المنيفة، وجمع له كل كمال
بشري لم يجتمع في بشر قبله ولا بعده لا من الأنبياء ولا من غيرهم، وفي هذا تشريف
عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقتضى كل هذه العطايا والمنح أن يٌقابلها
صلى الله عليه وسلم بالقيام بواجب شكر الله تعالى عليها، وقد قام صلى الله عليه
وسلم بذلك، وبذل الشكر على النعم قدر طاقته، واستفرغ ما في وسعه من أجل تحقيق
الشكر، ولذا كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، وفي رواية (تتصدع) وفي رواية
(تتشقق) وفي رواية (تتورم)،
وكان يجيب عن ذلك بسعادة بالغة، وراحة تامة
(أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟)
وأنفق ماله في سبيل الله، وكان
يواصل الصيام، ويعفو عمن أساء إليه أو ظلمه، إلى غير ذلك، وهو -صلوات الله وسلامه
عليه-في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من
الأولين ولا من الآخرين، وهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخلوق وهو بشر، والبشر والمخلوق
يعتريه الضعف والعجز، مهما صلى وقام، وعبد وصام، وذكر وتضرع ودعا وجاهد وبذل وصبر
لله تعالى، فلما علم الله تعالى هذه العجز من نبيه صلى الله عليه وسلم بعد استفراغ
طاقته وجهده لينهض بواجب الشكر عليه، خفَّف الله عنه وغفر له عجزه الذي لا قدرة له
صلى الله عليه وسلم على تجاوزه مهما قدَّم من طاعة، أو بذل من عبادة.
قال الإمام ابن بطال في شرحه نقلاً عن الإمام الطبري رحمهما الله:
كان يسأل ربه في صلاته حين اقترب أجله، وبعد أن أنزل عليه
{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}
النصر 1}}
ناعيًا إليه نفسه فقال
له:
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
تَوَّابًا}
النصر:3}}
وكان صلى الله عليه وسلم-
يقول:" إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة"
، فكان هذا من
فعله في آخر عمره وبعد فتح مكة، وقد قال الله تعالى له:
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ
مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}
[الفتح:2]
، باستغفارك
منه، فلم يسأل النبي- صلى الله عليه وسلم-
أن يغفر له ذنبًا قد غفر له،
وإنما غفر
له ذنبًا وعده مغفرته له باستغفاره،
ولذلك قال:
{فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}
[النصر:3].
قال ابن بطال: وفيها قول آخر يحتمل والله أعلم،
أن يكون دعاؤه- صلى
الله عليه وسلم- ليغفر الله له ذنبه على وجه ملازمة الخضوع لله تعالى، واستصحاب
حال العبودية والاعتراف بالتقصير شكرًا لما أولاه ربه تعالى مما لا سبيل له إلى
مكافأة بعمل،
فكما كان يصلي-
صلى الله عليه وسلم-
حتى ترم قدماه،
فيقال له:
قد غفر
الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول:
" أفلا أكون عبدًا شكورًا"
،
فكان اجتهاده في الدعاء، والاعتراف بالذلل والتقصير، والإعواز والافتقار إلى الله
تعالى شكرًا لربه، كما كان اجتهاده في الصلاة حتى ترم قدماه شكرًا لربه، إذ الدعاء
لله تعالى من أعظم العبادة له، وليسُنّ ذلك لأمته- صلى الله عليه وسلم-
فيستشعروا
الخوف والحذر ولا يركنوا إلى الأمن،
وإن كثرت أعمالهم وعبادتهم لله تعالى، وقد رأيت
المحاسبي أشار إلى هذا المعنى فقال: خوف الملائكة والأنبياء لله تعالى هو خوف
إعظام لأنهم آمنون في أنفسهم بأمان الله لهم، فخوفهم تعبد لله إجلالاً وإعظامًا.اهـ
الثالث
أنه لا يلزم من مغفرة الله لذنوبه وقوع الذنب منه صلى الله عليه
وسلم ابتداءاً،
بل لو وقع منه صلى الله عليه وسلم لوقع مغفوراً قال صاحب مرعاة
المفاتيح:
قيل: هو محمول على ترك الأولى،
وسمي ذنباً لعظم قدره- صلى الله عليه
وسلم-
، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين،
قيل: المراد لو وقع منك ذنب لكان
مغفوراً،
ولا يلزم من فرض ذلك وقوعه، والله أعلم.
وقال الإمام المناوي رحمه الله في فيض القدير عند تعليقه على حديثه
صلى الله عليه وسلم:
"إنه لَيُغَانُّ على قلبي"
: قال العارف الشاذلي:
هذا غين أنوار لا غين أغيار لأنه كان دائم الترقي فكلما توالت أنوار المعارف على
قلبه ارتقى إلى رتبة أعلى منها فيعد ما قبلها كالذنب اهـ والله تعالى أعلم.
والخلاصة
التحقيق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وكذا الأنبياء ـ معصوم
على الجملة من الصغائر وغيرها، ولا يلزم من مغفرة الله تعالى له وقوع الذنب منه
صلى الله عليه وسلم ابتداءاً بل لو وقع منه لوقع مغفوراً له، أو أنه محمول على
تجاوز الله تعالى وتخفيفه عن نبيه صلى الله عليه وسلم في عجزه عن القيام بواجب
الشكر على ما أولاه الله تعالى من نِعم، وعلى ما حباه من قدر ومنزلة تقتضي القيام
بواجب الشكر، بعدما استفرغ جهده وبذل ما في وسعه صلى الله عليه وسلم لينهض بذلك،
والله تعالى أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق