الهجرة الأولى إلى الحبشة
كانت بداية الإضطهادات في أواسط أو أواخر
السنة الرابعة من النبوة بدأت ضعيفة ثم لم تزل يوما فيوما وشهرا فشهرا حتى
اشتدت وتفاقمت في أواسط السنة الخامسة حتى نبا بهم المقام في مكة وأوعزتهم
أن يفكروا في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم وفي هذه الساعة الضنكة
الحالكة نزلت سورة الكهف ردودا على أسئلة أدلى بها المشركون إلى النبي صلى
الله عليه وسلم ولكنها اشتملت على ثلاث قصص فيها إشارات بليغة من الله
تعالى إلى عباده المؤمنين فقصة أصحاب الكهف ترشد إلى الهجرة من مراكز الكفر
والعدوان حين مخافة الفتنة على الدين متوكلا على الله ...وإذ اعتزلتموهم
وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من
أمركم مرفقا .
وقصة الخضر وموسى تفيد أن الظروف لا تجري ولا تنتج حسب
الظاهر دائما بل ربما يكون الأمر على عكس كامل بالنسبة إلى الظاهر. ففيها
إشارة لطيفة إلى أن الحرب القائمة ضد المسلمين ستنعكس تماما وسيصادر هؤلاء
الطغاة المشركون إن لم يؤمنوا أمام هؤلاء الضعفاء المدحورين من المسلمين.
وقصة ذي القرنين تفيد أن الأرض لله يورثها من عباده من يشاء. وأن الفلاح
إنما هو في سبيل الإيمان دون الكفر، وأن الله لا يزال يبعث من عباده- بين
آونة وأخرى- من يقوم بإنجاء الضعفاء من يأجوج ذلك الزمان ومأجوجه وأن الأحق
بإرث الأرض إنما هم عباد الله الصالحون. ثم نزلت سورة الزمر تشير إلى
الهجرة وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة .....للذين أحسنوا في هذه الدنيا
حسنة وأرض الله واسعة، إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب
. وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن أصحمة النجاشي ملك الحبشة ملك عادل لا
يظلم عنده أحد فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارا بدينهم من الفتن.
وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة كان مكونا
من اثني عشر رجلا وأربع نسوة رئيسهم عثمان بن عفان ومعه السيدة رقية بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
فيهما....إنهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما
السلام...كان رحيل هؤلاء تسللا في ظلمة الليل حتى لا تفطن لهم قريش خرجوا
إلى البحر ويمموا ميناء شعيبة وقيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا
بهم إلى الحبشة وفطنت لهم قريش فخرجت في آثارهم لكن لما بلغت إلى الشاطئ
كانوا قد انطلقوا آمنين وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار .
وفي
رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم وهناك جمع كبير
من قريش كان فيه ساداتها وكبراؤها فقام فيهم وأخذ يتلو سورة النجم بغتة إن
أولئك الكفار لم يكونوا سمعوا كلام الله قبل ذلك لأن أسلوبهم المتواصل كان
هو العمل بما تواصى به بعضهم بعضا من قولهم.... لا تسمعوا لهذا القرآن
والغوا فيه لعلكم تغلبون ... فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة وقرع آذانهم
كلام إلهي رائع خلاب لا يحيط بروعته وجلالته البيان تفانوا عما هم فيه
وبقي كل واحد مصغيا إليه لا يخطر بباله شيء سواه حتى إذا تلا في خواتيم هذه
السورة قوارع تطير لها القلوب ثم قرأ: فاسجدوا لله واعبدوا ...... ثم سجد
لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدا وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت
العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين .
وسقط في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لوى زمامهم فارتكبوا عين ما
كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه وإفنائه وقد توالى عليهم اللوم والعتاب
من كل جانب ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين وعند ذلك كذبوا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير
وأنه قال عنها تلك الغرانقة العلى وإن شفاعتهن لترتجى جاؤوا بهذا الإفك
المبين ليعتذروا عن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس يستغرب هذا
من قوم كانوا يؤلفون الكذب ويطيلون الدس والإفتراء .
بلغ هذا الخبر إلى
مهاجري الحبشة ولكن في صورة تختلف تماما عن صورته الحقيقية بلغهم أن قريشا
أسلمت فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة فلما كانوا دونه مكة ساعة من
نهار، وعرفوا جلية الأمر، رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من
سائرهم أحد إلا مستخفيا، أو في جوار رجل من قريش «1» .
ثم اشتد عليهم
وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش، وسطت بهم عشائرهم، فقد كان صعب على
قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسول الله صلى الله عليه
وسلم بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى، وكانت هذه
الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن
المسلمين كانوا أسرع ويسر الله لهم السفر فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل
أن يدركوا.
وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلا إن كان فيهم عمار فإنه يشك فيه وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة
مكيــــــــــــــــدة قريش بمهاجري الحبشة:
عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم فاختاروا رجلين
جلدين لبيبين وهما: عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة قبل أن يسلما
وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته وبعد أن ساق الرجلان
تلك الهدايا إلى البطارقة وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون
وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم حضرا إلى النجاشي
وقدما له الهدايا ثم كلماه فقالا له:أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان
سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه
نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم
لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
وقالت البطارقة: صدقا أيها الملك! فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.
ولكن رأى النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية وسماع أطرافها جميعا فأرسل
إلى المسلمين ودعاهم فحضروا وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنا ما كان.
فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في
ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟
قال جعفر بن أبي طالب وكان هو المتكلم
عن المسلمين: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة
ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل منا القوي الضعيف فكنا على
ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا
إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة
والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف
عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف
المحصنات وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة
والزكاة والصيام فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما
جاءنا به من دين الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم
علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا
ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى وأن نستحل ما كنا نستحل من
الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا
إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألانظلم عندك أيها
الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له
جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه علي. فقرأ عليه صدرا من كهيعص فبكى
والله النجاشي حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا
ما تلا عليهم ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من
مشكاة واحدة انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون يخاطب عمرو بن
العاص وصاحبه فخرجاوقال عمرو بن العاص لعبد الله بن ربيعة: والله لآتينهم
غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد الله بن ربيعة: لا تفعل فإن
لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا ولكن أصر عمرو على رأيه.
فلما كان
الغد قال للنجاشي: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما
فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا ولكن أجمعوا على
الصدق كائنا ما كان فلما دخلوا عليه وسألهم قال له جعفر: نقول فيه الذي
جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته
ألقاها إلى مريم العذراء البتول.فأخذ النجاشي عودا من الأرض، ثم قال: والله
ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم
والله.
ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي- والشيوم: الآمنون
بلسان الحبشة- من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبرا
من ذهب وأني آذيت رجلا منكم- والدبر الجبل بلسان الحبشة.
ثم قال
لحاشيته: ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها فو الله ما أخذ الله مني
الرشوة حين رد علي ملكي فاخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه.
قالت أم سلمة التي تروي هذه القصة: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاؤوا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق