بناء مجتمع جديد
قد أسلفنا أن نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في بني النجار كان يوم الجمعة (12 ربيع الأول سنة 1 هـ الموافق 27 سبتمبر سنة 622 م) وأنه نزل في أرض أمام دار أبي أيوب، وقال: ههنا المنزل إن شاء الله ثم انتقل إلى بيت أبي أيوب.
بناء المسجد النبوي
وأول خطوة خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو إقامة المسجد النبوي. ففي المكان الذي بركت فيه ناقته أمر ببناء هذا المسجد، واشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه وساهم في بنائه بنفسه فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة
وكان يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في البناء حتى إن أحدهم ليقول:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل
وكانت في ذلك المكان قبور المشركين وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غرقد فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت وبالخرب فسويت وبالنخل والشجرة فقطعت وصفت في قبلة المسجد وكانت القبلة إلى بيت المقدس وجعلت عضادتاه من حجارة وأقيمت حيطانه من اللبن والطين وجعل سقفه من جريد النخل وعمده الجذوع وفرشت أرضه من الرمال والحصباء وجعلت له ثلاثة أبواب وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخرة مائة ذراع والجانبان مثل ذلك أو دونه وكان أساسه قريبا من ثلاثة أذرع.
وبنى بيوتا إلى جانبه بيوت الحجر باللبن وسقفها بالجريد والجذوع وهي حجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب ولم يكن المسجد موضعا لأداء الصلوات فحسب بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته ومنتدى تلتقي وتتالف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها وقاعدة لإدارة جميع الشؤون وبث الإنطلاقات وبرلمانا لعقد المجالس الإستشارية والتنفيذية.
وكان مع هذا كله دارا يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا بنون.
وفي أوائل الهجرة شرع الأذان النغمة العلوية التي تدوي في الآفاق كل يوم خمس مرات والتي ترتج لها أنحاء عالم الوجود. وقصة رؤيا عبد الله بن زيد بن عبد ربه بهذا الصدد معروفة. رواها الترمذي وأبو داود وأحمد وابن خزيمة .
المؤاخاة بين المسلمين:
وكما قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد مركز التجمع والتالف قام بعمل آخر من أروع ما يأثره التاريخ وهو عمل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. قال ابن القيم: ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك وكانوا تسعين رجلا نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار آخى بينهم على المواساة ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر فلما أنزل الله عز وجل: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض .... رد التوارث دون عقد الأخوة. وقد قيل إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية ... والثبت الأول والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار .
ومعنى هذا الإخاء كما قال محمد الغزالي أن تذوب عصبيات الجاهلية فلا حمية إلا للإسلام وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن فلا يتقدم أحد أو يتأخر إلا بمروءته وتقواه.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقدا نافذا لا لفظا فارغا وعملا يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.
وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال .
فقد روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد ابن الربيع فقال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم مالي. نصفين ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها فإذا انقضت عدتها فتزوجها قال:
بارك الله لك في أهلك ومالك وأين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن ثم تابع الغدو ثم جاء يوما وبه أثر صفرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم .مهيم؟ قال: تزوجت. قال: كم سقت إليها؟ قال: نواة من ذهب .
وروي عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال:لا . فقالوا: فتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا .
وهذا يدلنا على ما كان عليه الأنصار من الحفاوة البالغة بإخوانهم المهاجرين ومن التضحية والإيثار والود والصفاء وما كان عليه المهاجرون من تقدير هذا الكرم حق قدره فلم يستغلوه ولم ينالوا منه إلا بقدر ما يقيم أودهم.
وحقا فقد كانت هذه المؤاخاة حكمة فذة وسياسة صائبة حكيمة وحلا رائعا لكثير من المشاكل التي كان يواجهها المسلمون والتي أشرنا إليها.
ميثاق التحالف الإسلامي:
وكما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد المؤاخاة بين المؤمنين قام بعقد معاهدة أزاح بها كل ما كان من حزازات الجاهلية، والنزعات القبلية ولم يترك مجالا لتقاليد الجاهلية وهاك بنودها ملخصا:
هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم:
1- أنهم أمة واحدة من دون الناس.
2- المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وكل قبيلة من الأنصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
3- وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
4- وأن المؤمنين المتقين على من بغى عليهم، أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين.
5- وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم.
6- ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر.
7- ولا ينصر كافرا على مؤمن.
8- وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم.
9- وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
10- وأن سلم المؤمنين واحدة ولا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
11- وأن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
12- وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن.
13- وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول.
14- وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
15- وأنه لا يحل لمؤمن أن ينصر محدثا ولا يؤويه وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
16- وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم .
أثر المعنويات في المجتمع:
بهذه الحكمة وبهذه الحذاقة أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد مجتمع جديد ولكن كانت هذه الظاهرة أثرا للمعاني التي كان يتمتع بها أولئك الأمجاد بفضل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهدهم بالتعليم والتربية وتزكية النفوس والحث على مكارم الأخلاق، ويؤدبهم باداب الود والإخاء والمجد والشرف والعبادة والطاعة.
سأله رجل؟ أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف .
قال عبد الله بن سلام: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جئت فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب فكان أول ما قال: يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام .
وكان يقول: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه .
ويقول: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده .
ويقول: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه .
ويقول: المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله .
ويقول: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا .
ويقول: لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام .
ويقول: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة .
ويقول: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء .
ويقول: ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جانبه .
ويقول: سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر .
وكان يجعل: إماطة الأذى عن الطريق صدقة ويعدها شعبة من شعب الإيمان .
وكان يحثهم على الإنفاق، ويذكر من فضائله ما تتقاذف إليه القلوب فكان يقول:
الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار .
ويقول: أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عري كساه الله من خضر الجنة وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة وأيما مسلم سقا مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم .
ويقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة .
وبجانب هذا كان يحث حثا شديدا على الإستعفاف عن المسألة ويذكر فضائل الصبر والقناعة كان يعد المسألة كدوحا أو خدوشا أو خموشا في وجه السائل . اللهم إلا إذا كان مضطرا كما كان يحدث لهم بما في العبادات من الفضائل والأجر والثواب عند الله وكان يربطهم بالوحي النازل عليه من السماء ربطا موثقا يقرؤه عليهم ويقرؤونه لتكون هذه الدراسة إشعارا بما عليهم من حقوق الدعوة، وتبعات الرسالة فضلا عن ضرورة الفهم والتدبر.
وهكذا رفع معنوياتهم ومواهبهم وزودهم بأعلى القيم والأقدار والمثل حتى صاروا صورة لأعلى قمة من الكمال عرفت في تاريخ البشر بعد الأنبياء.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كان مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم .
ثم إن هذا الرسول القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم كان يتمتع من الصفات المعنوية والظاهرة ومن الكمالات والمواهب والأمجاد والفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال بما جعلته تهوى إليه الأفئدة وتتفانى عليه النفوس فما يتكلم بكلمة إلا ويبادر صحابته- رضي الله عنهم إلى إمتثالها وما يأتي برشد وتوجيه إلا ويتسابقون إلى التحلي به.
بمثل هذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يا بني في المدينة مجتمعا جديدا أروع وأشرف مجتمع عرفه التاريخ وأن يضع لمشاكل هذا المجتمع حلا تتنفس له الإنسانية الصعداء بعد أن كانت تعبت في غياهب الزمان ودياجير الظلمات.
وبمثل هذه المعنويات الشامخة تكاملت عناصر المجتمع الجديد الذي واجه كل تيارات الزمان حتى صرف وجهتها وحول مجرى التاريخ والأيام.
المعاهدة مع اليهود
بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ووثق من رسوخ قواعد المجتمع الإسلامي الجديد بإقامة الوحدة العقائدية والسياسية والنظامية بين المسلمين رأى أن يقوم بتنظيم علاقاته بغير المسلمين وكان همه في ذلك هو توفير الأمن والسلام والسعادة والخير للبشرية جمعاء مع تنظيم المنطقة في وفاق واحد فسن في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي لم تعهد في عالم مليء بالتعصب والتغالي.
وأقرب من كان يجاور المدينة من غير المسلمين هم اليهود كما أسلفنا وهم وإن كانوا يبطنون العداوة للمسلمين لكن لم يكونوا أظهروا أية مقاومة أو خصومة بعد فعقد معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة ترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال ولم يتجه إلى سياسة الإبعاد أو المصادرة والخصام.
وجاءت هذه المعاهدة ضمن المعاهدة التي تمت بين المسلمين أنفسهم والتي مر ذكرها قريبا. وهاك أهم بنود هذه المعاهدة:
بنود المعاهدة
1- إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم كذلك لغير بني عوف من اليهود.
2- وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.
3- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
4- وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
5- وإنه لم يأثم امرؤ بخليفة.
6- وإن النصر للمظلوم.
7- وإن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
8- وإن يثرب حرام جوفها لأجل هذه الصحيفة.
9- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
10- وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
11- وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.... على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
12- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم .
وبإبرام هذه المعاهدة صارت المدينة وضواحيها دولة وفاقية عاصمتها المدينة ورئيسها إن صح هذ التعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم والكلمة النافذة والسلطان الغالب فيها للمسلمين وبذلك أصبحت المدينة عاصمة حقيقية للإسلام.... ولكن ما زال هناك كفاح وحرب من لمشركين علي المسلمين ...
الكفاح الدامي
استفزازات قريش ضد المسلمين بعد الهجرة واتصالهم بعبد الله بن أبي:
................................................................................
قد أسلفنا ما كان يأتي به كفار مكة من التنكيلات والويلات ضد المسلمين وما فعلوا بهم عند الهجرة مما استحقوا لأجلها المصادرة والقتال إلا أنهم لم يكونوا ليفيقوا من غيهم ويمتنعوا عن عدوانهم بل زادهم غيظا أن فاتهم المسلمون ووجدوا مأمنا ومقرا بالمدينة، فكتبوا إلى عبد الله بن أبي بن سلول وكان إذا ذاك مشركا بصفته رئيس الأنصار قبل الهجرة فمعلوم أنهم كانوا مجتمعين عليه وكادوا يجعلونه ملكا على أنفسهم لولا أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به كتبوا إليه وإلى أصحابه المشركين يقولون لهم في كلمات باتة:
إنكم آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم .
وبمجرد بلوغ هذا الكتاب قام عبد الله بن أبي ليمتثل أوامر إخوانه المشركين من أهل مكة وقد كان يحقد على النبي صلى الله عليه وسلم لما يراه أنه استلبه ملكه يقول عبد الرحمن بن كعب: فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال:لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا .
امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن إرادة القتال عند ذاك لما رأى خورا أو رشدا في أصحابه ولكن يبدو أنه كان متواطئا مع قريش، فكان لا يجد فرصة إلا وينتهزها لإيقاع الشر بين المسلمين والمشركين وكان يضم معه اليهود ليعينوه على ذلك ولكن تلك هي حكمة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تطفئ نار شرهم حينا بعد حين .
إعلان عزيمة الصد عن المسجد الحرام:
.............................................
ثم إن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمرا فنزل على أمية بن خلف بمكة فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت فخرج به قريبا من لقف النهار فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من هذا معك؟ فقال: هذا سعد فقال له أبو جهل ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعك ما هو أشد عليك منه طريقك على أهل المدينة .
قريش تهدد المهاجرين:
..........................
ثم إن قريشا أرسلت إلى المسلمين تقول لهم: لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب
سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم .
ولم يكن هذا كله وعيدا مجردا فقد تأكد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكيد قريش وإرادتها على الشر ما كان لأجله لا يبيت إلا ساهرا أو في حرس من الصحابة فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة فقال: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال: من هذا؟ قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نام .
ولم تكن هذه الحراسة مختصة ببعض الليالي بل كان ذلك أمرا مستمرا فقد روي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلا حتى نزل: والله يعصمك من الناس فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال: يا أيها الناس انصرفوا عني فقد عصمني الله عز وجل .
ولم يكن الخطر مقتصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل على المسلمين كافة فقد روى أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه.
الإذن بالقتال:
....................
في هذه الظروف الخطيرة التي كانت تهدد كيان المسلمين بالمدينة والتي كانت تنبئ عن قريش أنهم لا يفيقون عن غيهم ولا يمتنعون عن تمردهم بحال أنزل الله تعالى الإذن بالقتال للمسلمين ولم يفرضه عليهم قال تعالى: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير .
وأنزل هذه الآية ضمن آيات أرشدتهم إلى أن هذا الإذن إنما هو لإزاحة الباطل وإقامة شعائر الله قال تعالى: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر .
والصحيح الذي لا مندوحة عنه أن هذا الإذن إنما نزل بالمدينة بعد الهجرة لا بمكة ولكن لا يمكن لنا القطع بتحديد ميعاد النزول.
نزل الإذن بالقتال ولكن كان من الحكمة إزاء هذه الظروف التي مبعثها الوحيد هو قوة قريش وتمردها أن يبسط المسلمون سيطرتهم على طريق قريش التجارية المؤدية من مكة إلى الشام واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم لبسط هذه السيطرة خطتين:
الأولى: عقد معاهدات الحلف أو عدم الإعتداء مع القبائل التي كانت مجاورة لهذا الطريق أو كانت تقطن ما بين هذا الطريق وما بين المدينة وقد أسلفنا معاهدته صلى الله عليه وسلم مع اليهود وكذلك كان عقد معاهدة الحلف أو عدم الإعتداء مع جهينة قبل الأخذ في النشاط العسكري، وكانت مساكنهم على ثلاثة مراحل من المدينة وقد عقد معاهدات أثناء دورياته العسكرية .
الغزوات والسرايا قبل بدر:
.............................
ولتنفيذ هاتين الخطتين بدأ في المسلمين النشاط العسكري فعلا بعد نزول الإذن بالقتال وقاموا بحركات عسكرية هي أشبه بالدوريات الإستطلاعية وكان المطلوب منها هو الذي أشرنا إليه من الإستكشاف والتعرف على الطرق المحيطة بالمدينة، والمسالك المؤدية إلى مكة، وعقد المعاهدات مع القبائل التي مساكنها على هذه الطرق، وإشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها بأن المسلمين أقوياء وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم وإنذار قريش عقبى طيشها حتى تفيق عن غيها الذي لا تزال تتوغل في أعماقه وعلها تشعر بتفاقم الخطر على اقتصادها وأسباب معايشها فتجنح إلى السلم وتمتنع عن إرادة قتال المسلمين في عقر دارهم وعن الصد عن سبيل الله وعن تعذيب المستضعفين من المؤمنين في مكة حتى يصير المسلمون أحرارا في إبلاغ رسالة الله في ربوع الجزيرة.
وفيما يلي أحوال هذه السرايا بالإيجاز:
1- سرية سيف البحر:
............................
، في رمضان سنة 1 هـ. الموافق مارس سنة 623 م. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه السرية حمزة بن عبد المطلب وبعثه في ثلاثين رجلا من المهاجرين يعترض عيرا لقريش جاءت من الشام وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص . فالتقوا واصطفوا للقتال فمشى مجدي ابن عمرو الجهني وكان حليفا للفريقين جميعا بين هؤلاء وهؤلاء حتى حجز بينهم فلم يقتتلوا.
وكان لواء حمزة أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبيض وكان حامله أبا مرثد كناز بن حصين الغنوي.
2- سرية رابغ:
...................
في شوال سنة 1 من الهجرة أبريل سنة 623 م بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب في ستين راكبا من المهاجرين فلقي أبا سفيان وهو في مائتين على بطن رابغ وقد ترامى الفريقان بالنبل ولم يقع قتال.
وفي هذه السرية انضم رجلان من جيش مكة إلى المسلمين وهما المقداد بن عمرو البهراني وعتبة بن غزوان المازني وكان مسلمين خرجا مع الكفار ليكون ذلك وسيلة للوصول إلى المسلمين. وكان لواء عبيدة أبيض وحامله مسطح بن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف.
3- سرية الخرار:
..................
في ذي القعدة سنة 1 هـ الموافق مايو سنة 623 م بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في عشرين راكبا يعترضون عيرا لقريش وعهد إليه أن لا يجاوز الخرار فخرجوا مشاة يكمنون بالنهار ويسيرون بالليل حتى بلغوا الخرار صبيحة خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس.
كان لواء سعد رضي الله عنه أبيض، وحمله المقداد بن عمرو.
4- غزوة الأبواء أو ودان:
.....................................
في صفر سنة 2 هـ الموافق أغسطس سنة 623 م خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن استخلف على المدينة سعد بن عبادة، في سبعين رجلا من المهاجرين خاصة يعترض عيرا لقريش حتى بلغ ودان فلم يلق كيدا.
وفي هذه الغزوة عقد معاهدة حلف مع عمرو بن مخشى الضمري وكان سيد بني ضمرة في زمانه وهاك نص المعاهدة:
هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم وإن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا دين الله، ما بل بحر صوفة وإن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه .
وهذه أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت غيبته خمس عشرة ليلة وكان اللواء أبيض وحامله حمزة بن عبد المطلب.
5- غزوة بواط:
.....................
، في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ سبتمبر سنة 623 م خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه يعترض عيرا لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش وألفان وخمسمائة بعير فبلغ بواطا من ناحية رضوى ولم يلق كيدا.
واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سعد بن معاذ واللواء كان أبيض وحامله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
6- غزوة سفوان:
......................
، في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ سبتمبر سنة 623 م أغار كرز بن جابر الفهري في قوات خفيفة من المشركين على مراعي المدينة، ونهب بعض المواشي فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا من أصحابه لمطاردته حتى بلغ واديا يقال له: سفوان من ناحية بدر ولكنه لم يدرك كرزا وأصحابه فرجع من دون حرب وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الأولى.
واستخلف في هذه الغزوة على المدينة زيد بن حارثة وكان اللواء أبيض وحامله علي بن أبي طالب.
7- غزوة ذي العشيرة:
.............................
في جمادى الأولى وجمادى الآخرة سنة 2 هـ الموافق نوفمبر وديسمبر سنة 623 م خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة ويقال: في مائتين من المهاجرين ولم يكره أحدا على الخروج وخرجوا على ثلاثين بعيرا يعتقبونها يعترضون عيرا لقريش ذاهبة إلى الشام وقد جاء الخبر بفصولها من مكة فيها أموال لقريش فبلغ ذا العشيرة فوجد العير قد فاتته بأيام وهذه هي العير التي خرج لي طلبها حتى رجعت من الشام فصارت سببا لغزوة بدر الكبرى.
وكان خروجه صلى الله عليه وسلم في أواخر جمادى الأولى ورجوعه في أوائل جمادى الآخرة على ما قاله ابن إسحاق ولعل هذا هو سبب اختلاف أهل السير في تعيين شهر هذه الغزوة.
وفي هذه الغزوة عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة عدم اعتداء مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة.
واستخلف على المدينة في هذه الغزوة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي وكان اللواء في هذه الغزوة أبيض وحامله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
8- سرية نخلة:
........................
في رجب سنة 2 هـ الموافق يناير سنة 624 م بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في اثني عشر رجلا من المهاجرين كل اثنين يعتقبان على بعير.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له كتابا وأمره ألاينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فسار عبد الله ثم قرأ الكتاب بعد يومين فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها عير قريش وتعلم لنا من أخبارهم فقال:
سمعا وطاعة وأخبر أصحابه بذلك وأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فلينهض ومن كره الموت فليرجع وأما أنا فناهض فنهضوا كلهم غير أنه لما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه فتخلفا في طلبه وسار عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة فمرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة وفيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم ثم اجتمعوا على اللقاء فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله وأسروا عثمان والحكم وأفلت نوفل ثم قدموا بالعير والأسيرين إلى المدينة وقد عزلوا من ذلك الخمس وهو أول خمس كان في الإسلام وأول قتيل في الإسلام وأول أسيرين في الإسلام.
وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه وقال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ووقف التصرف في العير والأسيرين.
ووجد المشركون فيما حدث فرصة لإتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله وكثر في ذلك القيل والقال حتى نزل الوحي حاسما هذه الأقاويل وأن ما عليه المشركون أكبر وأعظم مما ارتكبه المسلمون ...
يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل .
فقد صرح هذا الوحي بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام واضطهاد أهله ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قد استها فجأة فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟ لا جرم أن الدعاية التي أخذ ينشرها المشركون دعاية تبتني على وقاحة ودعارة.
وبعد ذلك أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح الأسيرين وأدى دية المقتول إلى أوليائه .
تلكم السرايا والغزوات قبل بدر لم يجر في واحدة منها سلب الأموال وقتل الرجال إلا بعد ما ارتكبه المشركون في قيادة كرز بن جابر الفهري فالبداية إنما هي من المشركين مع ما كانوا قد أوتوه قبل ذلك من الأفاعيل.
وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد الله بن جحش تحقق خوف المشركين وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريبا ثم يقتلوا ويأسروا رجالهم ويأخذوا أموالهم ويرجعوا سالمين غانمين وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم ويأخذوا طريق الصلاح والموادعة كما فعلت جهينة وبنو ضمرة ازدادوا حقدا وغيظا وصمم صناديدهم وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل من إبادة المسلمين في عقر دارهم وهذا هو الطيش الذي جاء بهم إلى بدر.
أما المسلمون فقد فرض الله عليهم القتال بعد وقعة سرية عبد الله بن جحش في شهر شعبان سنة 2 هـ، وأنزل في ذلك آيات بينات وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين
ثم لم يلبث أن أنزل الله تعالى عليهم آيات من نوع آخر يعلم فيها طريقة القتال ويحثهم عليه ويبين لهم بعض أحكامه فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها. ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم. ويدخلهم الجنة عرفها لهم يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم .
ثم ذم الله الذين طفقت أفئدتهم ترجف وتخفق حين سمعوا الأمر بالقتال: فإذا نزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت .
وإيجاب القتال والحض عليه والأمر بالإستعداد له هو عين ما كانت تقتضيه الأحوال ولو كان هناك قائد يسير أغوار الظروف لأمر جنده، بالإستعداد لجميع الطوارئ فكيف بالرب العليم المتعال فالظروف كانت تقتضي عراكا داميا بين الحق والباطل وكانت وقعة سرية عبد الله بن جحش ضربة قاسية على غيرة المشركين وحميتهم آلمتهم وتركتهم يتقلبون على مثل الجمر.
وآيات الأمر بالقتال تدل بفحواها على قرب العراك الدامي وأن النصر والغلبة فيه للمسلمين نهائيا انظر كيف يأمر الله المسلمين بإخراج المشركين من حيث أخرجوهم وكيف يعلمهم أحكام الجند المتغلب في الأساري والإثخان في الأرض حتى تضع الحرب أوزارها هذه كلها إشارة إلى غلبة المسلمين نهائيا. ولكن ترك كل ذلك مستورا حتى يأتي كل رجل بما فيه من التحمس في سبيل الله.
وفي هذه الأيام في شعبان سنة 2 هـ/ فبراير 624 م أمر الله تعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام وأفاد ذلك أن الضعفاء والمنافقين من اليهود الذين كانوا قد دخلوا في صفوف المسلمين لإثارة البلبلة انكشفوا عن المسلمين ورجعوا إلى ما كانوا عليه وهكذا تطهرت صفوف المسلمين عن كثير من أهل الغدر والخيانة.
وفي تحويل القبلة إشارة لطيف إلى بداية دور جديد لا ينتهي إلا بعد إحتلال المسلمين هذه القبلة أو ليس من العجب أن تكون قبلة قوم بيد أعدائهم وإن كانت بأيديهم فلا بد من تخليصها يوما ما.
وبعد هذه الأوامر والإشارات زاد نشاط المسلمين واشتدت نزعاتهم إلى الجهاد في سبيل الله ولقاء العدو في معركة فاصلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق