كانت مكة تحترق غيظا على المسلمين مما أصابها في معركة بدرمن مأساة الهزيمة وقتل الصناديدوالأشراف وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ الثأر حتى إن قريشا كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر ومنعوا من الإستعجال في فداء الأسارى حتى لا يتفطن المسلمون مدى مأساتهم وحزنهم.
وعلى أثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تشفي غيظها وتروي غلة حقدها وأخذت في الإستعداد للخوض في مثل هذه المعركة.
وكان عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وأبو سفيان بن حرب وعبد الله بن أبي ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطا وتحمسا لخوض المعركة.
وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان والتي كانت سببا لمعركة بدر وقالوا للذين كانت فيها أموالهم: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا فأجابوا لذلك فباعوها وكانت ألف بعير والمال خمسين ألف دينار وفي ذلك أنزل الله تعالى: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون .
ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة وأخذوا لذلك أنواعا من طرق التحريض حتى إن صفوان بن أمية أغرى أبا عزة الشاعر الذي كان قد أسر في بدر فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحه بغير فدية وأخذ منه العهد بأن لا يقوم ضده أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حيا يغنيه وإلا يكفل بناته فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم كما اختاروا شاعرا آخر مسافع بن عبد مناف الجمحي لنفس المهمة.وكان أبو سفيان أشد تأليبا على المسلمين بعد ما رجع عن غزوة السويق خائبا لم ينل ما في نفسه بل أضاع مقدارا كبيرا من تمويناته في هذه الغزوة.
وزاد الطينة بلة أو زاد النار إذكاء إن صح هذ التعبير ما أصاب قريشا أخيرا في سرية زيد بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها وزودها من الحزن والهم ما لا يقادر قدره وحينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض في معركة تفصل بينهم وبين المسلمين.
ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها واجتمع إليها من المشركين ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش ورأى قادة قريش أن يستصحبوا معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير ومن سلاح الفرسان مائتا فرس جنبوها طول الطريق وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع.
وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب وقيادة الفرسان إلى خالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار.
تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة وكانت التارات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب ويشف عما سوف يقع من قتال مرير.
وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضمنها جميع تفاصيل الجيش.
وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة التي تبلغ مسافتها إلى خمسمائة كيلو مترا في ثلاثة أيام وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء.
قرأ الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب فأمره بالكتمان وعاد مسرعا إلى المدينة وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار.
وظلت المدينة في حالة استنفار عام، لا يفارق رجالها السلاح، حتى وهم في الصلاة، استعدادا للطوارئ.
وقامت مفرزة من الأنصار- فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حصير، وسعد بن عبادة- بحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلاح.
وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها، خوفا من أن يؤخذوا على غرة.
وقامت دوريات من المسلمين- لاكتشاف تحركات العدو- تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين.
وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسة المعتادة ولما وصل إلى الأبواء اقترحت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان بنبش قبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحوا هذا الباب.
ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة فسلك وادي العقيق ثم انحرف منه إلى ذات اليمين حتى نزل قريبا بجبل أحد في مكان يقال له عينين في بطن السبخة من قناة على شفير الوادي الذي يقع شمالي المدينة فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة.
ونقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة خبرا بعد خبر حتى الخبر الأخير عن معسكره وحينئذ عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا استشاريا عسكريا أعلى تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف وأخبرهم عن رؤيا رآها قال إني قد رأيت والله خيرا رأيت بقرا يذبح ورأيت في ذباب سيفي ثلما ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة وتأول البقر بنفرمن أصحابه يقتلون وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته وتأول الدرع بالمدينة.
ثم قدم رأيه إلى صحابته ألايخرجوا من المدينة. وأن يتحصنوا بها فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بشر مقام وبغير جدوى وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت وكان هذا هو الرأي. ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وكان قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج. ويبدو أن موافقته لهذا الرأي لم تكن لأجل أن هذا هو الموقف الصحيح من حيث الوجهة العسكرية بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك أحد وشاء الله أن يفتضح هو وأصحابه لأول مرة أمام المسلمين وينكشف عنهم الغطاء الذي كان كفرهم ونفاقهم يكمن وراءه ويتعرف المسلمون في أحرج ساعتهم على الأفاعي التي كانت تتحرك تحت ملابسهم وأكمامهم.
فقد بادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر فأشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج وألحوا عليه في ذلك حتى قال قائلهم: يا رسول الله كنا نتمنى هذا اليوم وندعوا الله فقد ساقه إلينا وقرب المسير اخرج إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم.
وكان في مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان قد رأى فرند سيفه في معركة بدر- فقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة .
ورفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه أمام رأي الأغلبية واستقر الرأي على الخروج من المدينة واللقاء في الميدان السافر.
ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس يوم الجمعة فوعظهم وأمرهم بالجد والإجتهاد وأخبر أن لهم النصر بما صبروا وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم ففرح الناس بذلك.ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا وحضر أهل العوالي ثم دخل بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر فعمماه وألبساه فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين أي لبس درعا فوق درع وتقلد السيف ثم خرج على الناس.
وكان الناس ينتظرون خروجه وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير:
استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه فندموا جميعا على ما صنعوا فلما خرج قالوا له: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته وهي الدرع أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه .
وقسم النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب:
1- كتيبة المهاجرين وأعطى لواءها مصعب بن عمير العبدري.
2- كتيبة الأوس من الأنصار وأعطى لواءها أسيد بن حضير.
3- كتيبة الخزرج من الأنصار وأعطى لواءها الحباب بن المنذر.
وكان الجيش متألفا من ألف مقاتل فيهم مائة دارع وخمسون فارسا وقيل لم يكن من الفرسان أحد واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة وأذن بالرحيل فتحرك الجيش نحو الشمال وخرج السعدان أمام النبي صلى الله عليه وسلم يعدوان دراعين.
ولما جاوز ثنية الوداع رأى كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش فسأل عنها فأخبر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة في القتال ضد المشركين فسأل: هل أسلموا؟ فقالوا: لا. فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك.
وعندما وصل إلى مقام يقال له (الشيخان) استعرض جيشه فرد من استصغره ولم يره مطيقا للقتال وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد وأسيد بن ظهير وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم وعرابة بن أوس وعمرو بن حزم وأبو سعيد الخدري وزيد بن حارثة الأنصاري وسعد بن حبة ويذكر في هؤلاء البراء بن عازب لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم.
وأجاز رافع بن خديج وسمرة بن جندب على صغر سنهما وذلك أن رافع بن خديج كان ماهرا في رماية النبل فأجازه فقال سمرة: أنا أقوى من رافع. أنا أصرعه فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أمرهما أن يتصارعا أمامه فتصارعا فصرع سمرة رافعا فأجازه أيضا.
المبيت بين أحد والمدينة:
وفي هذا المكان أدركهم المساء فصلى المغرب ثم صلى العشاء وبات هنالك وانتخب خمسين رجلا لحراسة المعسكر يتجولون حوله وكان قائدهم محمد بن مسلمة الأنصاري بطل سرية كعب بن الأشرف وتولى ذكوان بن عبد قيس حراسة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج حتى إذا كان بالشوط صلى الفجر وكان بمقربة جدا من العدو فقد كان يراهم ويرونه وهناك تمرد عبد الله بن أبي المنافق فانسحب بنحو ثلث العسكر ثلاثمائة مقاتل قائلا: ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ومتظاهرا بالإحتجاج بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره.
ولا شك أن سبب هذا الإنعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معنى. بل لو كان هذا هو السبب لا نعزل عن الجيش منذ بداية سيره بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد في ذلك الظرف الدقيق أن يحدث البلبلة والإضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي صلى الله عليه وسلم وتنهار معنويات من يبقى معه بينما يتشجع العدو وتعلو همته لرؤية هذا المنظر فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المخلصين ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه.
وكان المنافق ينجح في تحقيق بعض ما يهدف إليه فقد همت طائفتان بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج أن تفشلا ولكن الله تولاهما، فثبتتا بعد ما سرى فيهما الإضطراب وهمتا بالرجوع والإنسحاب وعنهما يقول الله تعالى: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ..
وحاول عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلا: أبعدكم الله، أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه.
وفي هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى: وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا، قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون .
بعد هذا التمرد والإنسحاب قام النبي صلى الله عليه وسلم ببقية الجيش وهم سبعمائة مقاتل ليواصل سيره نحو العدو وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد في مناطق كثيرة فقال: من رجل يخرج بنا على القوم من كثب (أي من قريب) من طريق لا يمر بنا عليهم؟.
فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله ثم اختار طريقا قصيرا إلى أحد يمر بحرة بني حارثة وبمزارعهم تاركا جيش المشركين إلى الغرب.
ومر الجيش في هذا الطريق بحائط مربع بن قيظي وكان منافقا ضرير البصر فلما أحس بالجيش قام يحثو التراب في وجوه المسلمين ويقول: لا أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدره القوم ليقتلوه فقال: لا تقتلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصر. .
ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي فعسكر بجيشه مستقبلا المدينة وجاعلا ظهره إلى هضاب جبل أحد وعلى هذا صار جيش العدو فاصلا بين المسلمين وبين المدينة.
وهناك عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه، وهيأهم صفوفا للقتال فانتخب منهم فصيلة من الرماة الماهرين قوامها خمسون مقاتلا وأعطى قيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي قناة- وعرف فيما بعد بجبل الرماة جنوب شرق معسكر المسلمين على بعد حوالي مائة وخمسين مترا من مقر الجيش الإسلامي.
والهدف من ذلك هو ما أبداه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلماته التي ألقاها إلى هؤلاء الرماة فقد قال لقائدهم: نضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتون من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فأثبت مكانك لا نؤتين من قبلك . ثم قال للرماة احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا وفي رواية البخاري أنه قال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم .
وبتعيين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين ويقوموا بحركات الإلتفاف وعملية التطويق.
أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو وجعل على الميسرة الزبير بن العوام يسانده المقداد بن الأسود وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة والذين يوزنون بالآلاف.
ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جدا تتجلى فيها عبقرية قيادة النبي صلى الله عليه وسلم العسكرية وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة مع أنه نزل فيه بعد العدو فقد حمى ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل وحمى ميسرته وظهره- حين يحتدم القتال بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي واختار لمعسكره موضعا مرتفعا يحتمي به إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين ولا يلتجئ إلى الفرار حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين وأسرهم ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا احتلال معسكره وتقدموا إليه وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جدا أن يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم ويصعب عليهم الإفلات من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين كما أنه عوض النقص العددي في رجاله باختيار نخبة ممتازة من أصحابه الشجعان البارزين.
وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3 هـ.
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم وظاهر بين درعين وحرض أصحابه على القتال وحضهم على المصابرة والجلاد عند اللقاء وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه حتى جرد سيفا باترا ونادى أصحابه: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال ليأخذوه منهم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وعمر بن الخطاب حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني. قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله فأعطاه إياه.
وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت. فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة وجعل يتبختر بين الصفين وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.
أما المشركون فعبأوا جيشهم حسب نظام الصفوف فكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان صخر بن حرب الذي تمركز في قلب الجيش وجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد وكان إذ ذاك مشركا وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل وعلى المشاة صفوان بن أمية وعلى رماة النبل عبد الله بن أبي ربيعة.
أما اللواء فكان إلى مفرزة من بني عبد الدار وقد كان ذلك منصبهم منذ أن اقتسمت بنو عبد مناف المناصب التي ورثوها من قصي بن كلاب- كما أسلفنا في أوائل المقالة وكان لا يمكن لأحد أن ينازعهم في ذلك تقيدا بالتقاليد التي ورثوها كابرا عن كابر بيد أن القائد العام أبا سفيان ذكرهم بما أصاب قريشا يوم بدر حين أسر حامل لوائهم النضر بن الحارث وقال لهم ليستفز غضبهم ويثير حميتهم يا بني عبد الدار قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه.
ونجح أبو سفيان في هدفه فقد غضب بنو عبد الدار لقول أبي سفيان أشد الغضب وهموا به وتواعدوه وقالوا له: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع.
وقد ثبتوا عند احتدام المعركة حتى أبيدوا عن بكرة أبيهم.
وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين.
فقد أرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول لهم: خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم فلا حاجة لنا إلى قتالكم ولكن أين هذه المحاولة أمام الإيمان الذي لا تقوم له الجبال فقد رد عليه الأنصار ردا عنيفا وأسمعوه ما يكره.
واقتربت ساعة الصفر وتدانت الفئتان فقامت قريش بمحاولة أخرى لنفس الغرض فقد خرج إليهم عميل خائن يسمى أبا عامر الفاسق واسمه عبد عمرو بن صيفي وكان يسمى الراهب فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق وكان رأس الأوس في الجاهلية. فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه فكان أول من خرج إلى المسلمين في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى قومه وتعرف عليهم وقال: يا معشر الأوس أنا أبو عامر. فقالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر ولما بدأ القتال قاتلهم قتالا شديدا وراضخهم بالحجارة.
وهكذا فشلت قريش في محاولتها الثانية للتفريق بين صفوف أهل الإيمان ويدل عملهم هذا على ما كان يسيطر عليهم من خوف المسلمين وهيبتهم، مع كثرتهم وتفوقهم في العدد والعدة.
وقامت نسوة قريش بنصيبهن من المشاركة في المعركة تقودهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان فكن يتجولن في الصفوف ويضربن بالدفوف يستنهضن الرجال ويحرضن على القتال ويثرن حفائظ الأبطال ويحركن مشاعر أهل الطعان والضراب والنضال فتارة يخاطبن أهل اللواء فيقلن:
ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأدبار
ضربا بكل بتار
وتارة يأزن قومهن على القتال وينشدن:
إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
وتقارب الجمعان وتدانت الفئتان وبدأت مراحل القتال وكان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري وكان من أشجع فرسان قريش، يسميه المسلمون كبش الكتيبة، خرج وهو راكب على جمل، يدعو إلى المبارزة، فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته، ولكن تقدم إليه الزبير ولم يمهله بل وثب وثبة الليث حتى صار معه على جمله ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه.
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراع الرائع، فكبر وكبر المسلمون وأثنى على الزبير وقال في حقه إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير .
ثم اندلعت نيران المعركة واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين. فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة وتقدم للقتال وهو يقول:
إن على أهل اللواء حقا ... أن تخضب الصعدة أو تندقا
فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه حتى وصلت إلى سرته فبانت رئته.
ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته فأدلع لسانه ومات لحينه وقيل: بل خرج أبو سعد يدعو إلى البزار فتقدم إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين فضربه علي فقتله.
ثم رفع اللواء مسافع بن طلحة بن أبي طلحة فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقتله فحمل اللواء بعده أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، فانقض عليه الزبير ابن العوام حتى قتله ثم حمل اللواء أخوهما الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته وقيل: بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضى عليه.
هؤلاء ستة نفر من بيت واحد، بيت أبي طلحة عبد الله بن عثمان بن عبد الدار قتلوا جميعا حول لواء المشركين ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة بن شرحبيل فقتله علي بن أبي طالب وقيل: حمزة بن عبد المطلب ثم حمله شريح بن قارظ فقتله قزمان وكان منافقا قاتل مع المسلمين حمية لا عن الإسلام ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري فقتله قزمان أيضا ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضا.
فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار من حملة اللواء أبيدوا عن آخرهم ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء فتقدم غلام لهم حبشي اسمه صواب فحمل اللواء وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله، فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه، لئلا يسقط حتى قتل وهو يقول: اللهم هل أعذرت؟ يقول أعذرت .
وبعد أن قتل هذا الغلام صواب سقط اللواء على الأرض ولم يبق أحد يحمله فبقي ساقطا.
وبينما كان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين كان القتال المرير يجري في سائر نقاط المعركة وكانت روح الإيمان قد سادت صفوف المسلمين فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان تتقطع أمامه السدود وهم يقولون (أمت . أمت) كان ذلك شعارا لهم يوم أحد.
أقبل أبو دجانة معلما بعصابته الحمراء آخذا بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم مصمما على أداء حقه فقاتل حتى أمعن في الناس وجعل لا يلقى مشركا إلا قتله وأخذ يهد صفوف المشركين هدا. قال الزبير بن العوام: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة وقلت أي في نفسي: أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه قبله فاتاه إياه وتركني والله لأنظرن ما يصنع؟ فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت فخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل
ألاأقوم الدهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول
فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله كان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلا زفف عليه فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا فاختلفا ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه فضربه أبو دجانة فقتله .
ثم أمعن أبو دجانة في هد الصفوف حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش وهو لا يدري بها. قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت له فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
وكانت تلك المرأة هي هند بنت عتبة. قال الزبير بن العوام رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها، فقلت: الله ورسوله أعلم .
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين يغامر مغامرة منقطعة النظير ينكشف عنه الأبطال كما تتطاير الأوراق أمام الرياح الهوجاء فبالإضافة إلى مشاركته الفعالة في إبادة حاملي لواء المشركين فعل الأفاعيل بأبطالهم الآخرين حتى صرع وهو في مقدمة المبرزين ولكن لا كما تصرع الأبطال وجها لوجه في ميدان القتال وإنما كما يغتال الكرام في حلك الظلام.
يقول قاتل حمزة وحشي بن حرب كنت غلاما لجبير بن مطعم وكان عمه طعيمة ابن عدي قد أصيب يوم بدر فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير: إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئا فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس هدا ما يقوم له شيء فو الله إني لأتهيأ له أريده فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى فلما رآه حمزة قال له هلم إلي يا ابن مقطعة البظور وكانت أمه ختانة قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه .
قال: وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في ثنته أحشائه حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوي فغلب وتركته وإياها حتى مات ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه ولم يكن لي بغيره حاجة وإنما قتلته لأعتق فلما قدمت مكة عتقت .
وبرغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله، فقد قاتل يومئذ أبو بكر وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وطلحة بن عبيد الله وعبد الله بن جحش وسعد بن معاذ وسعد بن عبادة وسعد بن الربيع وأنس بن النضر وأمثالهم قتالا فل عزائم المشركين وفتت في أعضادهم.
وكان من الأبطال المغامرين يومئذ حنظلة الغسيل وهو حنظلة بن أبي عامر وأبو عامر هذا هو الراهب الذي سمي بالفاسق والذي مضى ذكره قريبا كان حنظلة حديث عهد بالعرس فلما سمع هواتف الحرب وهو على امرأته انخلع من أحضانها وقام من فوره إلى الجهاد فلما التقى بجيش المشركين في ساحة القتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة فقد شد على أبي سفيان فلما استعلاه وتمكن منه رآه شداد ابن الأسود فضربه حتى قتله.
وكانت للفصيلة التي عينها الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة يد بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق ثلاث مرات ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر حتى يستربوا إلى ظهور المسلمين فيحدثوا البلبلة والإرتباك في صفوفهم وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم الثلاث .
هكذا دارت رحى الحرب الزبون وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطرا على الموقف كله حتى خارت عزائم أبطال المشركين وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين والشمال والأمام والخلف كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم لا بضع مئات قلائل وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين.
وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور وانكسرت همتها حتى لم يجترئ أحد منها أن يدنو من لوائها، الذي سقط بعد مقتل صواب فيحمله ليدور حوله القتال فأخذت في الإنسحاب ولجأت إلى الفرار ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والإنتقام وإعادة العز والمجد والوقار.
قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين وصدقهم وعده فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكروكانت الهزيمة لا شك فيها. روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم سوق هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب مادون أخذهن قليل ولا كثير ... إلخ
وفي حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح: فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتدون في الحبل يرفعن سوقهن قد بدت خلاخيلهن . وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم.
وبينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخرى نصرا ساحقا على مكة لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة قلبت الوضع تماما وأدت إلى الحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين وكادت تكون سببا في مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تركت أسوأ أثر على سمعتهم، والهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر.
لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء الرماة بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة لكن على رغم هذه الأوامر المشددة لما رأى هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا فقال بعضهم لبعض: الغنيمة الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟
أما قائدهم عبد الله بن جبير فقد ذكرهم أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالا، وقالت: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة . ثم غادر أربعون رجلا من هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل والتحقوا بسواد الجيش ليشاركوه في جمع الغنائم وهكذا خلت ظهور المسلمين ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة من أصحابه، التزموا مواقفهم مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا.
وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية فاستدار بسرعة خاطفة حتى وصل إلى مؤخرة الجيش الإسلامي فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه ثم انقض على المسلمين من خلفهم وصاح فرسانه صيحة عرف المشركون المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين وأسرعت امرأة منهم وهي عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب فالتف حوله المشركون ولاثوا به وتنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا على المسلمين وثبتوا للقتال وأحيط المسلمون من الأمام والخلف ووقعوا بين شقي الرحى.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة تسعة نفر من أصحابه في مؤخرة المسلمين كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة فكان أمامه طريقان إما أن ينجو بالسرعة بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشة المطوق إلى هضاب أحد.
وهناك تجلت عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته المنقطعة النظير فقد رفع صوته ينادي أصحابه: عباد الله وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطرا بنفسه في هذا الظرف الدقيق.
وفعلا فقد علم به المشركون فخلصوا إليه قبل أن يصل إليه المسلمون.
أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم فلم تكن تهمها إلا أنفسها فقد أخذت طريق الفرار وتركت ساحة القتال وهي لا تدري ماذا وراءها؟ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها وانطلق بعضهم إلى فوق الجبل ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين والتبس العسكران فلم يتميزوا فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض. روى البخاري عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة فصاح إبليس: أي عباد الله أخراكم أي احترزوا من ورائكم فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي أبي. قالت: فو الله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه فقال حذيفة: يغفر الله لكم قال عروة: فو الله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله .وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها إرتباك شديد وعمتها الفوضى وتاه منها الكثيرون لا يدرون أين يتوجهون وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحا يصيح: إن محمدا قد قتل. فطارت بقية صوابهم وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها فتوقف من توقف منهم عن القتال وألقى بأسلحته مستكينا وفكر آخرون في الإتصال بعبد الله بن أبي رأس المنافقين ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان.
ومر بهؤلاء أنس بن النضر وقد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحد ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل فما عرف حتى عرفته أخته بعد نهاية المعركة ببنانه وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم .
ونادى ثابت بن الدحداح قومه، فقال: يا معشر الأنصار إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت قاتلوا على دينكم فإن الله مظفركم وناصركم. فنهض إليه نفر من الأنصار فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح وقتل أصحابه .
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم .
وبمثل هذا الإستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية ورجع إليهم رشدهم وصوابهم فعدلوا عن فكرة الإستسلام أو الإتصال بابن أبي وأخذوا سلاحهم يهاجمون تيارات المشركين وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم كذب مختلق فزادهم ذلك قوة على قوتهم فنجحوا في الإفلات عن التطويق وفي التجمع حول مركز منيع بعد أن باشروا القتال المرير وجالدوا بضراوة بالغة.
وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل التطويق في بدايته وفي مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهم رضي الله عنهم كانوا في مقدمة المقاتلين فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة عليه الصلاة والسلام والتحية صاروا في مقدمة المدافعين.
إحتدام القتال حول رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة؟ أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضا فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه أي القرشيين ما أنصفنا أصحابنا .
وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السكن قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط .
وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول صلى الله عليه وسلم في القرشيين فقط، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة فقد ركزوا حملتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وطمعوا في القضاء عليه رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكلمات شفته السفلى، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فشجه في جبهته، وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قمئة فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة، شكا لأجلها أكثر من شهر، إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين ثم ضرب على وجنته صلى الله عليه وسلم ضربة أخرى عنيفة كالأولى حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له وهو يمسح الدم عن وجهه:أقمأك الله .
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته وشج في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله فأنزل الله عز وجل: ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون .
وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ: إشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله ثم مكث ساعة ثم قال: اللهم إغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . وكذا في صحيح مسلم أنه كان يقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال: اللهم إهد قومي فإنهم لا يعلمون .
ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة وقاتلا ببسالة منقطعة النظير حتى لم يتركا وهما اثنان فحسب سبيلا إلى نجاح المشركين في هدفهم وكان من أمهر رماة العرب فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.فأما سعد بن أبي وقاص فقد نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وقال: إرم فداك أبي وأمي . ويدل على مدى كفاءته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع أبويه لأحد غير سعد .
وأما طلحة بن عبيد الله فقد روى النسائي عن جابر قصة تجمع المشركين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار. قال جابر: فأدرك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من للقوم فقال طلحة: أنا ثم ذكر جابر تقدم الأنصار وقتلهم واحدا بعد واحد بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة قال جابر: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال: حسن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت: بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون قال: ثم رد الله المشركين . ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعا وثلاثين أو خمسا وثلاثين وشلت إصبعه أي السبابة والتي تليها .
وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء وقي بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد .
وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ: من ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة .
وقال فيه أبو بكر أيضا:
يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت ... لك الجنان وبوأت المها العينا
وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب ففي الصحيحين عن سعد. قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد. وفي رواية يعني جبريل وميكائيل .
وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة. وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال لم يكادوا يرون تطور الموقف أو يسمعون صوته صلى الله عليه وسلم حتى أسرعوا إليه لئلا يصل إليه شيء يكرهونه إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات وستة من الأنصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته الجراحات وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح فلما وصلوا أقاموا حوله سياجا من أجسادهم وسلاحهم وبالغوا في وقايته من ضربات العدو ورد هجماتهم وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه قتل: كن طلحة فداك أبي وأمي كن طلحة فداك أبي وأمي فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا طلحة بين يديه صريعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دونكم أخاكم فقد أوجب.وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في وجنته حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في وجنته فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني. قال: فأخذ بفيه فجعل ينضضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استل السهم بفيه فندرت ثنية أبي عبيدة قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني قال: فأخذه فجعل ينضضه حتى استله فندرت ثنية أبي عبيدة الآخرى ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دونكم أخاكم، فقد أوجب قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه. وقد أصابته بضع عشرة ضربة . وهذا أيضا يدل على مدى كفاءة طلحة ذلك اليوم في الكفاح والنضال.
وخلال هذه اللحظات الحرجة إجتمع حول النبي صلى الله عليه وسلم عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دجانة ومصعب بن عمير وعلي بن أبي طالب وسهل بن حنيف ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري وأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية وقتادة بن النعمان وعمر بن الخطاب وحاطب بن أبي بلتعة وسهل بن حنيف وأبو طلحة.
كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين حتى سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها فجحشت ركبته وأخذ علي بيده واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما وقال نافع بن جبير: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته أحلف بالله أنه منا ممنوع. فخرجنا أربعة. فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك .
وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة لم يعرف لها التاريخ نظيرا. كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرفع صدره ليقيه عن سهام العدو. قال أنس: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له وكان رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول: أنثرها لأبي طلحة. قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك .
وعنه أيضا قال: كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد وكان أبو طلحة حسن الرمي فكان إذا رمى تشرف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موقع نبله .
وقام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فترس عليه بظهره والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك.
وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص الذي كسر الرباعية الشريفة فضربه بالسيف حتى طرح رأسه ثم أخذ فرسه وسيفه. وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه عتبة هذا إلا أنه لم يظفر به بل ظفر به حاطب.
وكان سهل بن حنيف أحد الرماة الأبطال بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت ثم قام بدور فعال في ذود المشركين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه فعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وجنته فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فكانت أحسن عينيه وأحدهما.
وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر أصابه بعضها في رجله فعرج.
وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه.
فقال: مجه. فقال: والله لا أمجه أبدا. ثم أدبر يقاتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. فقتل شهيدا.
وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قمئة في أناس من المسلمين فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحا أجوف وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها لكن كانت عليه درعان فنجا وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحا.
وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه وكان اللواء بيده فضربوه على يده اليمنى حتى قطعت فأخذ اللواء بيده اليسرى وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله- لشبهه به- فانصرف ابن قمئة إلى المشركين وصاح: إن محمدا قد قتل .
ولم يمض على هذا الصياح دقائق حتى شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم في المشركين والمسلمين وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين الذين لم يكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانهارت معنوياتهم حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد وعمتها الفوضى والإضطراب إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين.
ولما قتل مصعب أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب فقاتل قتالا شديدا وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة يقاتلون ويدافعون.
وحينئذ استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك وكان أول من عرفه فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه أن أصمت وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالي ثلاثين رجلا من الصحابة.
وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنسحاب المنظم إلى شعب الجبل وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين واشتد المشركون في هجومهم لعرقلة الإنسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام.
تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة أحد فرسان المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لا نجوت إن نجا. وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لمواجهته. إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر فنازله الحارث بن الصمة فضرب على رجله فأقعده ثم ذفف عليه وأخذ سلاحه والتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعطف عبد الله بن جابر فارس آخر من فرسان مكة على الحارث بن الصمة فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة البطل المغامر ذو العصابة الحمراء على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه.
وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله كما تحدث عنه القرآن. قال أبو طلحة: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه .
وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة في انسحاب منظم إلى شعب الجبل وشق لبقية الجيش طريقا إلى هذا المقام المأمون فتلاحق به في الجبل وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد لا نجوت إن نجا؟. فقال القوم: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه. فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض ثم استقبله وأبصر ترقوته من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه فيها طعنة تدأدأ تدحرج منها عن فرسه مرارا فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم قال: قتلني والله محمد. قالوا له: ذهب والله فؤادك والله إن بك من بأس قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك فو الله لو بصق علي لقتلني فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة وفي رواية أبي الأسود عن عروة: أنه كان يخور خوار الثور ويقول: والذي نفسي بيده لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعا .
وفي أثناء انسحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع لأنه كان قد بدن وظاهر بيت الدرعين وقد أصابه جرح شديد. فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها وقال: أوجب طلحة أي الجنة.
ولما تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقر قيادته في الشعب قام المشركون باخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين. قال ابن إسحاق: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل .
وفي مغازي الأموي أن المشركين صعدوا على الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد:
أجبنهم يقول: ارددهم فقال: كيف أجبنهم وحدي؟ فقال ذلك ثلاثا فأخذ سعد سهما من كنانته فرمى به رجلا فقتله قال: ثم أخذت سهمي أعرفه فرميت به آخر فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته فهبطوا من مكانهم فقلت: هذا سهم مبارك فجعلته في كنانتي. فكان عند سعد حتى مات ثم كان عند بنيه .
وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي صلى الله عليه وسلم. ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئا بل كانوا على شبه اليقين من قتله رجعوا إلى مقرهم وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة واشتغل من اشتغل منهم وكذا اشتغلت نساؤهم بقتلى المسلمين يمثلون بهم ويقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة فلاكتها فلم تستطيع أن تسيغها فلفظتها واتخذت من الآذان والأنوف خدما خلاخيل وقلائد .
وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان تدلان على مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال ومدى استماتتهم في سبيل الله.
1- قال كعب بن مالك: كنت فيمن خرج من المسلمين فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول: استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته فمضيت حتى كنت من ورائه ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة .
2- جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة قال أنس: لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وأنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنهما ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم . وقال عمر: كانت (أم سليط) تزفر لنا القرب يوم أحد .
وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن إنها لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة أخذت تحثو في وجوههم التراب وتقول لبعضهم: هاك المغزل وهلم سيفك.
ثم سارعت إلى ساحة القتال فأخذت تسقي الجرحى فرماها حبان (بالكسر) ابن العرقة بسهم فوقعت وتكشفت فأغرق عدو الله في الضحك فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهما لا نصل له وقال: ارم به فرمى به سعد، فوقع السهم في نحر حبان فوقع مستلقيا حتى تكشف فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجزه ثم قال: استقاد لها سعد أجاب الله دعوته .
ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقره من الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته ماء من المهراس قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيرا وقيل: اسم ماء بأحد فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه فوجد له ريحا فعافه فلم يشرب منه وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه .
وقال سهل: والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووي؟ كانت فاطمة ابنته تغسله، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها، فاستمسك الدم .
وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا له بخير وصلى الظهر قاعدا من أثر الجراح، وصلى المسلمون خلفه قعودا
ولما تكامل تهيؤ المشركين للإنصراف أشرف أبو سفيان على الجبل فنادى: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه وكان النبي صلى الله عليه وسلم منعهم من الإجابة ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله ما يسوءك فقال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
ثم قال: أعل هبل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ فقالوا: فما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل .
ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم .
ثم قال أبو سفيان: أنعمت فعال يوم بيوم بدر والحرب سجال.
فأجاب عمر وقال: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
ثم قال أبو سفيان: هلم إلي يا عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائته فانظر ما شأنه؟
فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا وإنه ليستمع كلامك الآن. قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر .
قال ابن إسحاق: ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل: نعم هو بيننا وبينك موعد .
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة.. وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة .
وفرغ الناس لتفقد القتلى والجرحى بعد منصرف قريش. قال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع فقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو باخر رمق وفيه سبعون ضربة: ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم فقلت:
يا سعد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال:
وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف وفاضت نفسه من وقته .
ووجدوا في الجرحى الأصيرم عمرو بن ثابت وبه رمق يسير وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر ثم سألوه: ما الذي جاء بك؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام آمنت بالله ورسوله ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:هو من أهل الجنة. قال أبو هريرة:ولم يصل لله صلاة قط . ووجدوا في الجرحى قزمان وكان قد قاتل قتال الأبطال قتا وحده سبعة أو ثمانية من المشركين وجدوه قد أثبتته الجراحة فاحتملوه إلى دار بني ظفروبشره المسلمون فقال: والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت. فلما اشتد به الجراح نحر نفسه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ذكر له إنه من أهل النار وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوى إعلاء كلمة الله وإن قاتلوا تحت لواء الإسلام بل وفي جيش الرسول والصحابة. وعلى عكس من هذا كان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة قال لقومه: يا معشر يهود والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء ثم غدا فقاتل حتى قتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود .
وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء فقال: أنا شهيد على هؤلاء إنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه اللون لون الدم والريح ريح المسك .
وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة فأمر أن يردوهم فيدفنوهم في مضاجعهم وألايغسلوا وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود وكان يدفن الإثنين والثلاثة في القبر الواحد ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد ويقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة .
وفقدوا نعش حنظلة فتفقدوه فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تغسله ثم قال: سلوا أهله ما شأنه؟ فسألوا امرأته فأخبرتهم الخبر. ومن هنا سمي حنظلة: غسيل الملائكة .
ولما رأى ما بحمزة عمه وأخيه من الرضاعة اشتد حزنه وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنها الزبير أن يصرفها لا ترى ما بأخيها فقالت: ولم؟ وقد بلغني أن قد مثل بأخي وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فأتته، فنظرت إليه فصلت عليه دعت له واسترجعت واستغفرت له. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفنه مع عبد الله بن جحش وكان ابن أخته وأخاه من الرضاعة.
قال ابن مسعود: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشع من البكاء والنشع: الشهيق. وكان منظر الشهداء مريعا جدا يفتت الأكباد. قال خباب: (إن) حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الإذخر .
وقال عبد الرحمن بن عوف: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطي رجلاه بدا رأسه وروي مثل ذلك عن خباب وفيه:فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإذخر .
روى الإمام أحمد لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي عز وجل فصاروا خلفه صفوفا فقال اللهم لك الحمد كله اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما باعدت ولا مبعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك ..اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم: إني أسألك العون يوم العلة والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا.اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق .
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دفن الشهداء والثناء على الله والتضرع إليه انصرف راجعا إلى المدينة وقد ظهرت له نوادر الحب والتفاني من المؤمنات الصادقات كما ظهرت من المؤمنين في أثناء المعركة.
لقيته في الطريق حمنة بنت جحش فنعي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن زوج المرأة منها لبمكان .
ومر بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين قالت:أرونيه حتى أنظر إليه فأشير إليها حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل تريد صغيرة .
وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو وسعد آخذ بلجام فرسه، فقال: يا رسول الله أمي، فقال: مرحبا بها. ووقف لها. فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ. فقالت: أما إذا رأيتك سالما فقد اشتويت المصيبة أي: استقللتها. ثم دعا لأهل من قتل بأحد وقال: يا أم سعد أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا، وقد شفعوا في أهلهم جميعا. قالت: رضينا يا رسول الله ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: يا رسول الله ادع لمن خلفوا منهم فقال: اللهم اذهب حزن قلوبهم واجبر مصيبتهم واحسن الخلف على من خلفوا .
وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء ذلك اليوم- يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3 هـ إلى المدينة. فلما انتهى إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال: اغسلي عن هذا دمه يا بنية فو الله لقد صدقني اليوم. وناولها علي بن أبي طالب سيفه فقال: وهذا أيضا فاغسلي عنه دمه فو الله لقد صدقني اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة .
اتفقت جل الروايات على أن قتلى المسلمين كانوا سبعين وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار فقد قتل منهم خمسة وستون رجلا واحد وأربعون من الخزرج وأربع وعشرون من الأوس وقتل رجل من اليهود. وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط.
وأما قتلى المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلا ولكن الإحصاء الدقيق بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير والتي تتضمن ذكر قتلى المشركين في مختلف مراحل القتال يفيد أن عدد قتلى المشركين سبعة وثلاثون لا اثنان وعشرون. والله أعلم .
بات المسلمون في المدينة ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ بعد الرجوع عن معركة أحد وهم في حالة الطوارئ باتوا وقد أنهكهم التعب ونال منهم أي منال يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها ويحرسون قائدهم الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة إذ كانت تتلاحقهم الشبهات من كل جانب.
وبات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يفكر في الموقف فقد كان يخاف أن المشركين إن فكروا في أنهم لم يستفيدوا شيئا من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال فلا بد من أن يندموا على ذلك ويرجعوا من الطريق لغزو المدينة مرة ثانية فصمم على أن يقوم بعملية مطاردة الجيش المكي.
قال أهل المغازي ما حاصله: إن النبي صلى الله عليه وسلم نادى في الناس وندبهم إلى المسير إلى لقاء العدو وذلك صباح الغد من معركة أحد أي يوم الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ وقال: لا يخرج معنا إلا من شهد القتال فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك؟
قال: لا واستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف المزيد وقالوا: سمعا وطاعة واستأذنه جابر بن عبد الله وقال: يا رسول الله إني أحب أن لا تشهد مشهدا إلا كنت معك وإنما خلفني أبي على بناته فأذن لي أسير معك فأذن له. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد على بعد ثمانية أميال من المدينة فعسكروا هناك.وهناك أقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ويقال: كان على شركه ولكنه كان ناصحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بين خزاعة وبني هاشم من الحلف فقال: يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله عافاك فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحق أبا سفيان فيخذله.
ولم يكن ما خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفكير المشركين في العودة إلى المدينة إلا حقا فإنهم لما نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلاثين ميلا من المدينة تلاوموا فيما بينهم وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم.
ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحيا ممن لم يكن يقدر قوة الفريقين ومعنوياتهم تقديرا صحيحا ولذلك خالفهم زعيم مسؤول صفوان بن أمية قائلا: يا قوم لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف من الخروج أي من المسلمين في غزوة أحد فارجعوا والدولة لكم فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم. إلا أن هذا الرأي رفض أمام رأي الأغلبية الساحقة وأجمع جيش مكة علي المسير نحو المدينة ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه من مقره لحقه معبد بن بي معبد الخزاعي ولم يكن يعرف أبو سفيان بإسلامه فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة محمد قد خرج في أصحابه قبلكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما ضيعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط.
قال أبو سفيان: ويحك ما تقول؟
قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل أو حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة.
فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة؟؟؟ عليهم لنستأصلهم.
قال: فلا تفعل فإني ناصح.
وحينئذ انهارت عزائم الجيش المكي وأخذه الفزع والرعب فلم ير العافية إلا في مواصلة الإنسحاب والرجوع إلى مكة بيد أن أبا سفيان قام بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش الإسلامي لعله ينجح في كف هذا الجيش عن مواصلة المطاردة وطبعا فهو ينجح في الإجتناب عن لقائه، فقد مر به ركب من عبد القيس يريد المدينة، فقال: هل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة: وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة؟.
قالوا: نعم.
قال: فأبلغوا محمدا أنا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه.
فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بحمراء الأسد فأخبرهم بالذي قاله أبو سفيان وقالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم أي زاد المسلمين قولهم ذلك إيمانا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم.
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد بعد- مقدمة يوم الأحد- الإثنين والثلاثاء والأربعاء- 9/ 10/ 11 شوال سنة 3 هـ ثم رجع إلى المدينة. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الرجوع إلى المدينة أبا عزة الجمحي وهو الذي كان قد من عليه من أسارى بدر لفقره وكثرة بناته على ألايظاهر عليه أحدا ولكنه نكث وغدر فحرض الناس بشعره على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كما أسلفنا وخرج لمقاتلتهم في أحد فلما أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد أقلني وامنن علي ودعني لبناتي وأعطيك عهدا ألاأعود لمثل ما فعلت فقال صلى الله عليه وسلم لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول: خدعت محمدا مرتين لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ثم أمر الزبير أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه .
كما حكم بالإعدام في جاسوس من جواسيس مكة وهو معاوية بن المغيرة بن أبي العاص جد عبد الملك بن مروان لأمه وذلك أنه لما رجع المشركون يوم أحد جاء معاوية هذا إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه، فاستأمن له عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتله فلما خلت المدينة من الجيش الإسلامي أقام فيها أكثر من ثلاث يتجسس لحساب قريش فلما رجع الجيش خرج معاوية هاربا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعمار بن ياسر فتعقباه حتى قتلاه ومما لا شك فيه أن غزوة حمراء الأسد ليست بغزوة مستقلة إنما هي جزء من غزوة أحد وتتمة لها وصفحة من صفحاتها.
تلك هي غزوة أحد بجميع مراحلها وتفاصيلها وطالما بحث الباحثون حول مصير هذه الغزوة هل كانت هزيمة أم لا؟ والذي لا يشك فيه أن التفوق العسكري في الصفحة الثانية من القتال كان للمشركين وأنهم كانوا مسيطرين على ساحة القتال وأن خسارة الأرواح والنفوس كانت في جانب المسلمين أكثر وأفدح وأن طائفة من المؤمنين انهزمت قطعا وأن دفة القتال جرت لصالح الجيش المكي لكن هناك أمورا تمنعنا أن نعبر عن كل ذلك بالنصر والفتح.
فمما لا شك فيه أن الجيش المكي لم يستطع احتلال معسكر المسلمين وأن المقدار الكبير من الجيش المدني لم يلتجئ إلى الفرار مع الإرتباك الشديد والفوضى العامة بل قاوم بالبسالة حتى تجمع حول مقر قيادته وأن كفته لم تسقط إلى حد أن يطارده الجيش المكي، وأن أحدا من جيش المدينة لم يقع في أسر الكفار وأن الكفار لم يحصلوا على شيء من غنائم المسلمين وأن الكفار لم يقوموا إلى الصفحة الثالثة من القتال مع أن جيش المسلمين لم يزل في معسكره وأنهم لم يقيموا بساحة القتال يوما أو يومين أو ثلاثة أيام كما هو دأب الفاتحين في ذلك الزمان بل سارعوا إلى الإنسحاب وترك ساحة القتال قبل أن يتركها المسلمون ولم يجترئوا على الدخول في المدينة لنهب الذراري والأموال مع أنها على بعد عدة خطوات فحسب وكانت مفتوحة وخالية تماما.
كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش لم يكن أكثر من أنهم وجدوا فرصة نجحوا فيها بإلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إبادة الجيش الإسلامي بعد عمل التطويق وكثيرا ما يلقى الفاتحون بمثل هذه الخسائر التي نالها المسلمون أما أن ذلك كان نصرا وفتحا فكلا وحاشا.
بل يؤكد لنا تعجيل أبي سفيان في الإنسحاب والإنصراف أنه كان يخاف على جيشه المعرة والهزيمة لو جرت صفحة ثالثة من القتال ويزداد ذلك تأكدا حين ننظر إلى موقف أبي سفيان من غزوة حمراء الأسد.
وإذن فهذه الغزوة إنما كانت حربا غير منفصلة أخذ كل فريق بقسطه ونصيبه من النجاح والخسارة ثم حاد كل منهما عن القتال من غير أن يفر عن ساحة القتال ويترك مقره لاحتلال العدو وهذا هو معنى الحرب غير المنفصلة. وإلى هذا يشير قوله تعالى:ولا تهنوا في ابتغاء القوم. إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون .
فقد شبه أحد العسكرين بالآخر في التألم وإيقاع الألم مما يفيد أن الموقفين كانا متماثلين وأن الفريقين رجعا وكل غير غالب.
القرآن يتحدث حول موضوع المعركة
ونزل القرآن يلقي ضوآ على جميع المراحل المهمة من هذه المعركة مرحلة مرحلة ويدلي بتعليقات تصرح بالأسباب التي أدت إلى هذه الخسارة الفادحة وأبدى النواحي الضعيفة التي لم تزل موجودة في طوائف أهل الإيمان بالنسبة إلى واجبهم في مثل هذه المواقف الحاسمة وبالنسبة إلى الأهداف النبيلة السامية التي أنشئت للحصول عليها هذه الأمة التي تمتاز عن غيرها بكونها خير أمة أخرجت للناس.
كما تحدث القرآن عن موقف المنافقين ففضحهم وأبدى ما كان في باطنهم من العداوة لله ولرسوله مع إزالة الشبهات والوساوس التي كانت تختلج بقلوب ضعفاء المسلمين والتي كان يثيرها هؤلاء المنافقون وإخوانهم اليهود أصحاب الدس والمؤامرة وقد أشار إلى الحكم والغايات المحمودة التي تمخضت عنها هذه المعركة.
نزلت حول موضوع المعركة ستون آية من سورة آل عمران تبتدئ بذكر أول مرحلة من مراحل المعركة: وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال .. وتترك في نهايتها تعليقا جامعا على نتائج هذه المعركة وحكمتها قال تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم .
قد بسط ابن القيم الكلام على هذا الموضوع بسطا تاما . وقال ابن حجر: قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ألايبرحوا منه. ومنها أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائما دخل في المؤمنين من ليس منهم ولم يتميز الصادق من غيره ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيا عن المسلمين فلما جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحا وعرف المسلمون أن لهم عدوا في دورهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم. ومنها: أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضما للنفس وكسرا لشماختها، فلما ابتلى المؤمنون صبروا وجزع المنافقون. ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم فقيض لهم أسباب الإبتلاء والمحن ليصلوا إليها.
ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم. ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه، فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين ومحق بذلك الكافرين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق