سلسله يوميــــــات صائم
اللقــــــاء التاسع عشر من يوميات صائم
====================
خلوا بيني وبين ناقتي
عن أبي هريرة: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم- يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنْتُ
إِلَيْكَ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا وَلا أَجْمَلْتَ. فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ، وَقامُوا
إِلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا، ثُمَّ قَامَ وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَأرْسَلَ
إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَادَهُ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنْتُ
إِلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا. فَقَالَ
لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ قُلْتَ مَا قُلْتَ وَفِي
نَفْسِ أَصْحَابِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بَيْنَ يَدَيَّ
حَتَّى يَذْهَبَ مَا فِي صُدُورِهمْ عَلَيْكَ، قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ
أَوِ الْعَشِيُّ جَاءَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ
قَالَ مَا قَالَ فَزِدْنَاهُ، فَزَعَمَ أَنَّهُ رَضِيَ أَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعِشِيرَةٍ خَيْرًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلِي وَمَثَلُ هَذَا، مثل رَجُلٍ لَهُ نَاقَةٌ شَرَدَتْ عَلَيْهِ،
فَاتَّبَعَهَا النَّاسُ فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا، فَنَادَاهُمْ صَاحِبُهَا:
خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي، فَإِنِّي أَرْفَقُ بِهَا مِنْكُمْ وَأَعْلَمُ،
فَتَوَجَّهَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا فَأَخَذَ لَهَا مِنْ قُمَامِ الْأَرْضِ، فَرَدَّهَا
حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَنَاخَتْ، وَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا، وَاسْتَوَى عَلَيْهَا،
وَإِنِّي لَوْ تَرَكْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَا قَالَ، فَقَتَلْتُمُوهُ دَخَلَ
النَّارَ). (رواه: البزار، وأبو الشيخ في (الأمثال) وله شواهد.
نحتاج هذه الروح المحمدية التي تصبر على نزق الجاهلين
وتعالج شِرَة نفوسهم بالمزيد من الحب والحلم والصبر والعطاء ودفع السيئة بالحسنة..
والحاجة إليها اليوم أشد؛ في زمن تداخلت فيه الأمور، وتعاظمت الشرور، وكثر المخالف،
وقلَّ الموافق، وغلب الجهل على الناس.
نحتاج هذا العزل الذي يمنع تحشيد الناس الذين لا يعنيهم
الأمر، وتناديهم لأمر يكفي أن يتولّاه صاحب الشأن بطريقته الإصلاحية التهذيبية الحكيمة؛
التي تبني ولا تهدم، وتُؤلِّف ولا تُنفِّر، وتُيسِّر ولا تُعسِّر.. وأولئك كان ضجيجهم
خلف الناقة وكثرتهم حولها مدعاة للمزيد من بُعدها ونفورها..
المصلح الحكيم يجمع بين الرفق واللّين والسكينة من جهة،
وبين إيضاح الحق بأفضل الأساليب وأقربها للشريعة، وبين استعمال وسائل متنوعة من الترغيب
والترهيب، والوعد والوعيد؛ مما يتناسب مع الطبيعة الإنسانية، ومع اختلاف مشارب الناس،
وأنماط شخصياتهم. الآيات ناطقة بأن {المؤمنون والمؤمنات {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(71:التوبة).
وهذا يعني السعي لتحقيق الصفات الشرعية في الآمر والناهي،
والتي منها العلم حتى يعرف الحق والباطل، والمقطوع والمحتمل، ويضع الأشياء في مواضعها،
ويقدر المقام حق قدره فلا يغلو أو يجفو.. ومنها الرِّفْق؛ الذي لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ
إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ » (مسلم
ومنها الصبر، واحتمال الأذى، وعدم الغضب للنفس أو الانتقام
أو التشفِّي أو التحاقد.. والقدرة على فصل ما لله وما للنفس نظريّاً، ثم تحقيق ذلك
واقعيّاً من أشق الأمور على النفوس، وكثيراً ما يقع فيها اللَّبس والتداخل، حتى لا
يعرف المرء دافعه على وجه التحديد.
لقد
أكثر النبي صلى الله عليه وسلم في الرفق فقال: (إن الله رفيق يحب الرفق في
الأمر كله). متفق عليه. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من
شيء إلا شانه). وهذا يدل على أهمية هذا الخلق وحاجة الخلق إليه في سائر
شؤونهم.
فالناس يمقتون العنف وأصحابه، وينفرون بطبائعهم من الفظاظة
والخشونة، ويألفون الرقة وأهلها، وقد قال تعالى﴿ فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا
مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
﴾
فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وإلى قلب رفيق يسعهم
ولا يضيق بجهلهم، ويجدون عنده الرعاية والرفق واللين، وهكذا كان قلب رسول الله صلى
الله عليه وسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق