سلسله أمهاتالمؤمنين
الدرس العاشر من سلسله أمهات المؤمنين ( رمله بنت ابي سفيان)
================================
رملة بنت أبي سفيان
السيدة أم حبيبة (25 ق. هـ- 44 هـ) (596- 664 م.)
إنها رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية أخت معاوية بن أبي سفيان كانت من فصيحات قريش، وقد تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في الحبشة، وصارت أما للمؤمنين، وهي من الصحابيات الأوليات.
كانت السيدة رملة مشهورة بالذكاء والزكانة والحصافة وجودة الرأي.
كانت قبل زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبيد الله بن جحش، ثم هاجرت معه إلى الحبشة في الهجرة الثانية، لكن عبيد الله ارتد عن الإسلام وتحول إلى النصرانية، فتركته وأعرضت عنه حتى هلك، فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها، وعهد للنجاشي ملك الحبشة بعقد نكاحه عليها، وكانت وكلت عنها خالد بن سعيد بن العاص، وكان النجاشي أصدقها من عنده أربعمائة دينار، وكان ذلك سنة سبع، وكان عمرها وقتذاك بضع وثلاثون سنة.
وكان أبو سفيان أبوها لا يزال مقيما على الشرك، ولما علم وبلغه ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عجب له وقال: ذلك الفحل لا يقرع أنفه!! وقد توفيت رضي الله عنها بالمدينة سنة أربع وأربعين، وروت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وستين حديثا.
ظهرت المدينة في أبهى صورها، وأجمل رونقها وهي تتهيأ لاستقبال الظافرين المسلمين من خيبر الذين أتوا على قافلة الشرك فقصموا ظهره، وأتوا بنيانه من القواعد، وفي نفس الوقت تستقبل المدينة مهاجرة الحبشة الذين جاؤا في صحبة عمرو بن أمية الضمري المبعوث من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ليعود بمن بقي في بلاده من المهاجرين الأولين.
ويتفرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه أصحابه ورجاله من المهاجرين الكماة «1» الأبطال فما أن يلمح ابن عمه جعفر بن أبي طالب، حتى وثب من فوق راحلته، معانقا ومقبلا عينيه، وهو يقول هاشا مغبوطا:ما أدري بأيهما أنا أسر: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟ .
وكان من بين المهاجرات اللاتي وصلن (أم حبيبة) رملة بنت أبي سفيان، أم المؤمنين، وكانت فرحتها وغبطتها لا نهائية حيث رحب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح لها صدره وقلبه ليكافئها على صبرها وابتلائها في بلاد الغربة النائية الشطون، حيث كانت مصيبتها وفجيعتها في زوجها الهالك عبيد الله بن جحش الذي صبأ عن الإسلام، واعتنق دين الأحباش (النصرانية) وتركها وابنتها منه (حبيبة) في ديار الغربة محزونة مهمومة، تعاني الأمرين من الغربة والبين عن الأهل والزوج والوطن ... فقد فرّق الإسلام بينها وبين أهلها، حتى إن الزوج المسلم الذي كان كنفا وملاذا صار غريبا عنها فحرمت من كل عطف وشفقة وتحنن، ولولا أن تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوكالة لما رتق هذا الفتق، ولا جبر هذا الكسر شيء في الدنيا جميعا، فإن جرحها كان غائرا، لأشجان الاغتراب ومرارة التنكر للاباء والأجداد، وقد صارت ديار بني جحش يبابا خرابا تنعق عليها البوم، وتنعب على أطلالها الدوارس الغربان.
لقد صارت رملة (أم حبيبة) أما للمؤمنين، وكان أبوها لا يزال مقيما على الكفر والشرك، وكان دخول أم حبيبة بيت النبوة تحولا خطيرا غير مسبوق.
وكانت فرحة ذي النورين عثمان بن عفان- رضي الله عنه- لا توصف ولا تحد، وهو خالها المحب العطوف الذي كان أول من بارك تزويج ابنة أخته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجلى هذا السرور في إقامة عثمان وليمة حافلة نحرت فيها الذبائح، وطعم الناس فيها اللحم، وعلى عزف الطبول وأغنيات الجواري والفتيات سهرت المدينة وسهر أهلها يتغنون بقول أبي سفيان عند ما علم بزواج ابنته من رسول الله صلى الله عليه وسلم:هذا الفحل لا يجدع أنفه .
ولم يكن هناك داع بادي الرأي ولا مبرر لغيرة عائشة من رملة حيث إنها سيدة قد نيفت على الأربعين أو تكاد ... ولكن هي الآخرى أم حبيبة رأت أن تربأ بنفسها عن أن تكون مقودة بابنة أبي بكر رضي الله عنهما، وأن تكون وهي من هي ابنة أبي سفيان زعيم قريش- تبعا لعائشة التي تتزعم ثورة الضرائر في بيت النبوة للاستئثار بأكبر نصيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ولعل أم حبيبة كانت محزونة مشحونة بالهموم والأنكاد، للمصارمة والقطيعة والعداوة الشديدة بين أبيها وأهلها وبين زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تتفطر حزنا وأسى ولوعة، وهي تسمع أنباء تهييج أبيها واستنفاره للمشركين ضد المسلمين، وهي في نفس الوقت حريصة كل الحرص على زوجها وحبيبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أبنائها المؤمنين من الفوارس الأبطال، فهي لذلك مشغولة البال من كثرة الوساوس والبلبال، فإن نارا تتلظى في حشاها، وجحيما تتسعر لا تخبو ليلا ولا تهمد نهارا، ولا تكبو طرفة عين، ولا سيما بعد أن تراقى إليها، ونما إلى سمعها وحك أذنيها أن لقاء المواجهة الحاسمة بين أبيها ورجاله، وبين زوجها وأبنائها صار وشيكا، فإنه عندئذ سيأكل بعضها بعضا ... لذلك لم يكن لديها من الوجدان والشعور متسع ولا فيه منادح أو مسارح لمثل خطط الضرائر وتحزبهن، ومكايدهن لبعضهن البعض، فهي عندها من الشواغل والهموم حيلولة طبيعية دون ذلك.
ذات يوم عمدت قريش إلى نقض عهد الحديبية، فاجتمع كبراؤها ورؤوسها ليتداولوا في الأمر، وليقوموا مدى توفر ضمانات النصر والظفر ...
لكن بعد مشاورات جادة رأوا أن قوة محمد صلى الله عليه وسلم أصبحت مضربا للأمثال، وأصبحت قوة ضاربة، يتمثل بها الصادر والوارد، وأصبح حدّ المسلمين كثيفا ولم يعد كلؤهم مستباحا، ولا عقوتهم محلولا بها، ولا ذمارهم مغارا عليه، ولا بد لمن يفكر في الإغارة عليهم أو استباحة ذمارهم أن يفكر ويتدبر ويتردد ألف مرة، وأن أية محاولة سيكون ثمنها غاليا، وأن أية مغامرة سيكون فيها الهلاك والتشريد والإبادة الساحقة الماحقة التي لا تبقي ولا تذر.
لذلك أجمعوا أمرهم على أن يقوم كبيرهم أبو سفيان بن حرب رسولا
منهم ممثلا لهم إلى المدينة ليتفاوض مع محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك ليمد الهدنة عشر سنوات أخرى.
لكن أبا سفيان رأى الموقف حرجا ودقيقا للغاية فاختلف إلى بيت أم حبيبة خلسة متسللا ليعرض عليها مطلوب قريش، ولم يكن قد رآها قبل هجرتها إلى الحبشة ... ووقف أمام ابنته، وقد فوجئت أم حبيبة بأبيها يقف أمامها وفي عقر دارها، ثم أذن لنفسه أن يجلس على الفراش من تلقاء نفسه من غير أن تأذن له، فما راعه وروّعه وفت في ساعده إلا أن وثبت أم حبيبة فاختطفت الفراش الذي قعد عليه أبوها وسحبته من تحته وطوته في قوة وصلابة، فسألها وهو يلوذ بالصبر والحلم والاحتمال:
«أطويته يا بنية رغبة بي عن الفراش، أم رغبة بالفراش عني؟؟!!» .
وكان ردها صارما قاسيا:
«هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك، فلم أحب أن تجلس عليه!!» .
قال أبو سفيان، وهو يعتصر من داخله والألم يفري كبده، وقد كسرت كلمات رملة فقار ظهره، وصفعته على جبينه وصكته صكا:
«لقد أصابك يا بنية بعدي شر» .
وانصرف كالح الوجه كاسف البال، مقهور القلب، مكسور الجناح، واهي العزيمة، واهن القوة، مهدود القوى خائرها، مقوّض الأركان، مغشيا عليه.
ثم لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر فلم يجبه بشيء، فانصرف إلى أبي بكر فرفض، ثم ذهب بعد ذلك إلى عمر، ثم إلى علي رضي الله عنهم أجمعين متوسلا إليهم مستشفعا بهم أن يشفعوا له عند محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه وصل بعد هذه المساعي الموصولة إلى طريق مسدودة موصدة فما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخذ أخيرا بنصيحة علي بن أبي طالب، وهي أن يجير هو بين الناس، ثم يسرع فيلحق بأرضه، ومن ثم ذهب أبو سفيان إلى المسجد، ثم أعلن أنه أجار بين الناس، ثم أسرع إلى راحلته، فانطلق بها يعدو في طريق مكة كأنه يفر من مطارد.
رجع أبو سفيان إلى قومه يضرب أصدريه، وعاد بخفي حنين، صفر اليدين، مجروح الكرامة، مبخوس الحظ، مقروح الفؤاد، مصدوع الكبد ...
وفي طريق من طرق مكة والجيش اللجب الجرار، والخميس العرمرم يتوجه قاصدا البيت الحرام، والأبطال المغاوير شاكين السلاح، ولقي العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان فابتدره العباس ينبئه بالخبر، فقال له:ويحك يا أبا حنظلة، هذا رسول الله في الناس واصباح قريش إذا دخل مكة عنوة! فأسلم ثكلتك أمك وعشيرتك .ثم أجاره العباس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه عنده، وفي الغداة من صباح اليوم التالي جاء به العباس لعرضه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم ألاإله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره، لقد أغنى شيئا بعد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ويحك يا أبا سفيان: ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ . قال أبو سفيان:
«بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما أحلمك وما أكرمك وما أوصلك!! أما هذه، فو الله إن في النفس منها حتى الان شيئا!» .
لكن ما لبث أبو سفيان أن صدع بكلمة الحق تدوي على ملأ الأشهاد ليشهد ألاإله إلّا الله، وأن محمدا رسول الله حقا وصدقا، وأن الدين عند الله الإسلام ...
وينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن «دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق من دونه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن» .
كانت في تلك اللحظات (رملة) تجلس واجمة حزينة مهمومة، وهي لا تملك شيئا، ولكن في لحظة عابرة سرح بخاطرها شعور لذيذ جميل، وهو من محصول التداعيات الكثيرة التي تعتمل في فكرها، وتجول وتصول في صدرها ... وهي ما الذي يمنع أن يدخل أبو سفيان وابنه معاوية في الإسلام مثلما حدث مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟؟ وورد على خاطرها في نفس اللحظة قوله تعالى:عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وما لبثت وهي يخامرها هذا الخاطر الجميل، ويساورها ويراوحها حتى بلغها إسلام أبيها، فطارت فرحا، وانتشت غبطة تحمد الله، وتشكر فضله، وخرت له ساجدة شاكرة، وقد انزاح عن كاهلها جبال من الهموم أثقل من أحد وشهلان، وطرحت عن ظهرها أثقالا فادحة زلزلت كيانها منذ كانت في ديار الغربة وما لقيته فيها من عذاب وعنت ومشقة.وعند ما شعرت بدنو ساعة الرحيل، وكان لا بد من دنو قطافها يوما من الأيام بعد أن جاهدت في سبيل الله حق جهاده، بعثت لعائشة لتحللها مما كان بينهما من هفوات أو هنوات تكون بين الضرائر عادة فقالت لعائشة وقد دعتها إليها:قد كاد أن يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فتحلليني من ذلك أو قالت: قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك ، فحللتها عائشة، واستغفرت لها، فقالت لها:سررتني سرك الله وفعلت نفس هذا الأمر مع أم سلمة بنت زاد الركب .ثم صعدت الروح الطيبة إلى بارئها وثوى الجسد الطاهر المسجى في بقيع المدينة رضوان الله عليها.
Our Blog
الدرس العاشر من سلسله أمهات المؤمنين
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق