Our Blog

الدرس السابع من سلسله أمهات المؤمنين

سلسله  أمهات المؤمنين
الدرس السابع من سلسله أمهات المؤمنين (زينب بنت جحش)
================================
زينب بنت جحش
فتاة قريش الصّوامة القوّامة الصّناع (33 ق. هـ- 20 هـ) (590- 641 م.)
هي زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية من أسد خزيمة  أم المؤمنين  وابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم  زوّجها رسول الله عليه الصلاة والسلام من زيد بن حارثة  واسمها (برّة)   وطلقها زيد ثم تزوجها بعد ذلك بأمر الله سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكون أما للمؤمنين  وكان سماها عندئذ (زينب) . وقد كانت رضي الله عنها من أجمل النساء  وقد نزلت بسببها آية الحجاب، وقد روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد عشر حديثا.
وكانت أول من حمل بالنعش من موتى العرب. وتوفيت إلى رحمة الله ورضوانه سنة عشرين للهجرة النبوية المشرفة الموافق سنة إحدى وأربعين وستمائة للميلاد.
كانت زينب بنت جحش كريمة العنصر  شريفة النسب  طيبة الجرثومة  حسناء جميلة وضيئة  حفيدة عبد المطلب بن هاشم  فأمها أميمة بنت عبد المطلب  عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كانت أقربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم  وقد أضفت عليها هذه القرابة الشرف والفخر الذي كانت به تتيه وتعتز  مثلما تعتز بجمالها  وشبابها وحيويتها ومضريتها.
ثم إن هذا التزويج الذي تم بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان شاغلا للمجتمع بأسره، فلم يخف أثره على أحد من المدنيين على حد سواء  وما ترتب على هذا التزويج الذي لم يكن زواجا عاديا  وإنما كان تزويجا خارجا عن ناموس الطبيعة مما جعله مجالا وغرضا للبحث والمناقشة والتأويل والتعليل شأن أي أمر يتحول بالمجتمع الإنساني من منهج إلى منهج  ومن عقيدة إلى عقيدة  ومن تشريع إلى تشريع.
ولم يكن هذا التزويج مقصورا على أسبابه المعروفة ولكن كان محمولا على عموم دلالته التشريعية.
ذكر مؤرخو السيرة أن سعدى بنت ثعلبة  زوجة شراحيل بن كعب الكلبي كانت خرجت ذات يوم لتزور أهلها بني معن بن طيء  ومعها ابنها زيد بن حارثة صبيا لم يشب عن الطوق  يقارب عمره ثماني سنوات ... وبينما كانا يغذوان المسير  يذرعان الطريق بلهفة المشوق المستهام للقاء الأهل والأحباب بعد  طول الغياب ... إذ دهمتهم فجأة وأحصرتهم بغتة خيل من بني القين بن جسر ... وكسر في ذرع سعدى بنت ثعلبة ورأت الموت رأي العين  بلغت بها المأساة ذروتها عندما انتزعوا منها فلذة كبدها  وتركوها تسير مجروحة كليمة الفؤاد كليلة العزيمة خائرة القوى تهيم على وجهها هيمانا من الوجد والأسى ولوعة الفراق لابنها الصبي الصغير ...
وانطلق القوم مسرعين بالصبي الأخيذ المخطوف  ثم بيع إلى تاجر اسمه حكيم بن خزام بن خويلد الأسدي القرشي   ... وما أن عاد حكيم إلى بلده وعاد أدراجه من رحلته التجاريه  وبعد ان ألقى عصاه  وضرب بجرانه  حتى جاءته عمته خديجة بنت خويلد الأسدي زوج محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم  لتزوره  فعرض عليها غلمانا عنده تختار منهم واحدا هدية لها  فنظرت إليهم وتفرست وجوههم  ثم اختارت زيدا بن حارثة.
وما أن عادت به خديجة إلى بيتها حتى رآه زوجها صلى الله عليه وسلم  فسألها أن تهبه إياه ففعلت.
لما عرف حارثة بن شراحيل بأمر اختطاف ابنه جزع جزعا شديدا، واهتم هما لا مزيد عليه ... ثم خرج هو وأخوه كعب يذرعان البطون والشعاب، ويجدون في البحث والتنقيب عن مفقودهم المخطوف ... حتى سمعوا أنه في مكة عند محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فهرولا إليه ملهوفين  مكروبين قائلين:  يا بن عبد المطلب  يا بن سيد قومه  أنتم جيران الله  تفكون العاني  وتطعمون الجائع  وقد جئناك في ابننا  فتحسن الينا في فدائه؟  .
وكان ردّ الكريم أبلغ الرد الذي يقطر عطفا وحدبا وبرا وأريحية فقال لهما:أو غير ذلك؟  .
قالا:  وما هو؟  .
قال:  أدعوه وأخيره، فإن اختار كما فذاك، وإن اختارني فو الله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا  .
قالا: قد زدت على النصفة.
ودعي زيد فعرف أباه وعمه  وخيّره رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شاء ذهب معهما، مع أبيه وعمه، وإن أحب أقام معه ...
لكن انطلقت كلمة الحق الذي لا تخالجه مصانعة  والصدق الذي لا تخامره مداهنة  واليقين الثابت الذي لا يخالطه تردد أو تقاعس ... انطلقت على لسان زيد من غير مواربة  ومن غير احتراس ولا اكتراث  وهو يعلم أن أباه وعمه لقيا الأمرّين من أهوال البحث والتنقيب عنه، ويدرك جيدا مدى الهم والغم والعنت الذي لحق بأهله من جرائه وبسببه  لكن يصدع بما في طويته ودخيلته فيختار سيده محمدا بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ولم تنفع ضراعة أبيه وعمه بين يديه  ولا نفعت توسلات أبيه إليه وتذكيره بوالديه وقومه ومسقط رأسه. ثم يقول زيد ردا على ذلك كله:
إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا، وما أنا بالذي أفارقه أبدا . قال له أبوه:يا زيد، أتختار العبودية على أبيك وأمك، وبلدك، وقومك؟  .
وقال غير ذلك  ولم يتردد زيد لحظة واحدة ولم يبد غير التصميم والإصرار والثبات على الأمر من غير وجل أو تردد أو تقاعس  فلم يتحول عن موقفه ولم يعدل عنه رغم كل هذا الإلحاح والتوسل.
إنه لأمر أعجب من العجب ... مثير للدهشة والاستغراب  وهو إيثار واختيار العبودية على الطلاقة والحريةلا يمكن أن يسبق إلى ظن أو توهم أو اعتقاد ... وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يزداد تمسكا بزيد واحتضانا له وتكريما لشأنه كفاء هذا الموقف الندب الذي خلعه عليه صلى الله عليه وسلم ... إذ إن هذا التصرف من زيد تكريم أي تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أن يكون الرق والتمليك له شرفا وفخرا ومجدا فوق النسب والحسب، والأهل والعشيرة وكل الأحباب والخلان. بأبي أنت وأمي يا رسول الله ... !! وعاد أبوه وعمه مخذولان يضربان أصدريهما  قافلين بخفي حنين.
أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا وأمسك بيده على رؤوس الأشهاد وقام به إلى الملأ من قريش فأشهدهم أنّ زيدا ابنه وارثا ومورثا.ومنذ تلك اللحظة كان زيد يدعى زيد بن محمد.
ثم لما أن بلغ الصبي مبلغ الرجال  وأكرمه الله تعالى بالإسلام  حيث كان من الأربعة نفر الأولين السابقين زاد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم له  وأراد أن يكافئه على صنيعه باختياره له على أهله ورفاقه وعشيرته، فأراد أن تكون الهدية مكافئة ومساوية لهذا الصنيع وهي أن تكون نفيسة مضنونا بها، وعقيلة من العقائل الأشراف، فاختار له ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب (زينب بنت جحش) لتكون زوجا له ...
لكنّ وقع هذا الاختيار كان شديدا وأليما على زينب العروس الشابة الحسناء وعلى أخيها عبد الله بن جحش الذي أثر في نفسه ذلك أبلغ التأثير إذ رأى كيف يتم ذلك بين شريفة عقيلة نسيبة ومملوك مثل زيد؟ هذا على الرغم من أن زيدا كان عربيا صميما من قبل أبيه، ومن جهة أمه أيضا، لكن هذه العربية المحصنة لم يفلح شافعها عند زينب وأخيها عبد الله من الجانب النفسي والوجداني.
بيد أن الله سبحانه وتعالى رأى شيئا غير ذلك الذي رأياه  فلما رأى كلاهما أن قدر الله تعالى وقضاؤه لا بد أن يتم بهذا التزويج لم يترددا لحظة واحدة ورضيا به فور سماعهما قوله تعالى:وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً.
فإنه لا اختيار للمؤمن ولا للمؤمنة إلا بما يوافق قضاء الله تعالى وإنه سبحانه وتعالى لا يقضي للمؤمن ولا للمؤمنة إلا بما هو خير سواء في عاجل الأمر أو آجله. ولا عبرة لما يكون من كلا الطرفين قبولا واستحسانا أو رفضا واستهجانا؛ فإن اختيار الله تعالى ليس قبله ولا بعده اختيار.
ثم تزوجت زينب زيدا بناء على الوحي الإلهي غير المردود  الذي لا معقب له فهو غير منقوض.
لكن سحب الشقاء لم تنقشع عن سماء الزوجية الملبدة بغيوم الهموم  فإن زينب لم تكن هانئة ولا هادئة في بيت الزوجية حيث لم تذق طعم الاستقرار النفسي ولا الطمأنينة ... كذلك عاش زيد حياة قاسية مريرة مع زينب فهو لا يرضى أن يكون زوجا مفروضا على عقيلة من أشراف قريش، وهو مولى من الموالي والرقيق ...
ولم يكن عند زيد إزاء إعراض زينب عنه إلا أن يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يأمره بالصبر وبتقوى الله  وأن يمسك عليه زوجه ... ثم تتكرر الشكوى من زينب لسوء معاملتها لزوجها وقسوتها عليه  وإعراضها عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينصحه بمزيد من الصبر والتقوى والاحتمال ...
لكن بلغ السيل الربى وبلغ الحز المفصل ووصل السكين العظم، وبلغت الدلو الحمأة ... كان لا بد من التفريق بينهما حيث إن العشرة أصبحت في تلك اللحظة ضربا من المحال، فكان طلاقها ثم تزويجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الإمام الطبري في تاريخه المشهور  وابن سعد في طبقاته الكبرى من طريق الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بيت زيد يطلبه فلم يجده فقامت إليه زينب فضلا، فأعرض صلى الله عليه وسلم عنها، فقالت: ليس هو هنا يا رسول الله، فادخل بأبي أنت وأمي. وأبى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يدخل، وإنما عجلت إليه زينب لما قيل لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم على الباب، فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يفهم منه، إلا أنه ربما أعلن  سبحان الله العظيم، سبحان مصرف القلوب  وفي رواية:يا مصرف القلوب ثبّت قلبي على دينك.
وهناك رواية أخرى للإمام الطبري بنحو هذه الرواية من طريق يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري ...
وهذه الحادثة رغم عفويتها وأنها لا شيء فيها غير طبيعي إلا أن المغرضين استغلوها أسوأ استغلال واستثمروها في إلقاء ظلال قاتمة من الريبة والشك والغمز واللمز للنيل من مقام النبوة.
إن الطاعنين في الإسلام رسالة ورسولا لم يتركوا المرويات العادية من غير أن يتقولوا فيها ويحدثوا من الثلم ما يسوغون به الإطلال بوجوههم القبيحة الكالحة مرجفين متخرصين مدلسين  والله من ورائهم محيط.
لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم راغبا في الزواج من زينب لما كان هو الذي سعى وأتم هذا الزواج من البداية ولما كان حريصا على أن تستمر الحياة بين زيد وزينب وكان كلما جاءه شاكيا باكيا قال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك ...
لذلك فإن هذه المرويات الداحضة المردودة والمنقوضة لم تجد قبولا ولا تسويغا ولا تبريرا من عاقل أريب ذو فهم ودربة ودراية ... وأراد القرآن الكريم أن يسجل الصورة الحقيقية على أكمل وجه وأتمه إنصافا للحق والحقيقة وقطعا لدابر الفتنة، فقال سبحانه وتعالى:
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ.
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسوقا إلى هذا الزواج بعاطفة غريزية كما هو في كل الزيجات أو أكثرها، لكن إرادة الله من وراء هذا التزويج حتى يتم إبطال قضية التبني، وما يترتب عليها من حقوق وآثار كانت مقررة في الجاهلية، وأراد الإسلام أن ينسخها ويمحوها ويبطل كل آثارها.
لكن الأفئدة المريضة، والقلوب السقيمة، والضمائر المعتلة تأخذ من هذه الواقعة مادة للغمز واللمز غير الكريم، وقد استثمرها المستشرقون في التخرص والأفيكة والبهتان.
ولئن كان أولئك المستشرقون قد عوّلوا على أقوال بعض المفسرين من علماء المسلمين والذين بدورهم كوّنوا عقيدتهم تلك على أحاديث مرسلة، وأخرى ضعيفة الإسناد، وبعض المرويات قد كانت مشوبة بمنهج المعتزلة كما ورد من تأويل الزمخشري في كشافه.
إن نيران الفتنة ألهب ضرامها وأوقد جمرتها وأذكى سعيرها وأسجر تنورها تأويل المتأولين وتفنيد المفندين لقوله تعالى:وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ.فالذين سولت لهم أنفسهم شيئا  وسوغت لهم وبررت تأويلهم، وذهاب ظنونهم كل مذهب في دلالة الاية أنه صلى الله عليه وسلم كان يخفي في نفسه  حب زينب، وهو الذي أبداه الله، هذا قولهم بأفواههم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاشاه ذلك كان منزها عن هذا بكل الأدلة والبراهين والبينات.
وأول هذه الأدلة وأولاها بالتقدير، وهي من أبلغ أدلة البراءة هي نفسها التي اتخذها المرجفون الخراصون دليلا للتأثيم، وهو معنى قوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ فهم جعلوا ما أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم- حاشاه ذلك- حبّ زينب عندما رآها بغتة، وقيل: رغبته في فراق زينب زيدا.
وهذا مردود عليه منقوض لأنه صلى الله عليه وسلم أمر زيدا بإمساك زينب وعدم تطليقها، فلو كان راغبا في ذلك لما أمره بالتقوى والصبر والتحمل والتجمل.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم سلفا بوحي من الله سبحانه وتعالى أن زينب ستكون من أزواجه وستكون أما للمؤمنين ولكنه أخفى هذا في نفسه، ولم يطلع زيدا عليه  وكلما جاءه شاكيا لم يطلعه على السر الذي أميط اللثام له عنه  لأنّ الله تعالى لم يخف شيئا عن نبيّه صلى الله عليه وسلم.
هذا هو الحق والصدق والصواب والذي يوافق عصمة النبوة التي تتنزه عن أوضار الهوى وأرجاس الغواية، وأدناس الضلالة ... ورسول الله صلى الله عليه وسلم، أولى بكل فضل وفضيلة ... لأنّ الله تعالى قد طهّره تطهيرا، وأعلى درجته ورفع ذكره في العالمين، ولذلك كان محالا أن تسيطر عليه شهوة الجسد، وكان مستحيلا أن يكون مقودا في لحظة من اللحظات إلى نزوة من النزوات الدنيوية.
ثم إن زينب ابنة عمته لم تكن بعيدة منه  ولم يكن جمالها خافيا عليه
ومن غير المعقول أن يصر تزويجها من زيد وهو لا يدرك ولا يعرف مقدار جمالها!!! ... كذلك فإن زينب لم تكن تمتنع عن الزواج من ابن خالها لو طلب منها ذلك بادي الرأي قبل عرض زيد عليها، إذ إنها لم تكن لتتأبى على ذلك ...
وليس معقولا ولا مقبولا ولا سائغا بحال أن يظهر جمال زينب بغتة وفجأة بما لم يكن فيها قبل ذلك، أو أن جمالها لم يكن قبل ذا تأثير ومراس وأصبح في طرفة عين له سحر هاروت وماروت، وكسحر الجان فيفعل الأفاعيل من خوارق المعجزات ... !!
إن محصول القول، وصفوة ولباب القضية أن كل ما ورد من مرويات وأقاويل جديرة بالترك والإهمال ما خلا ما ذكرناه من أن الذي كان يخفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إياه بأن زينب ستصير زوجته، وما حمله على ذلك الإخفاء لهذا الأمر إلى خوف مقالة الناس إن محمدا تزوج امرأة ابنه ...
ولما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه لزيد: فاذكرها عليّ . فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها  قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله ذكرها  فوليتها ظهري ونكصت على عقبي  فقلت: يا زينب  أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي. فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن.
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن.
قال أنس  وهو راوي هذا الحديث الصحيح ولقد رأتينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار، فخرج الناس، وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن، ويقلن: كيف وجدت أهلك؟ فما أدري، أنا أخبرته أن القوم خرجوا، أو أخبرني؟ فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب  .
لقد نزلت آية الحجاب في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً   منذ هذه اللحظة أصبح الحجاب مفروضا ومضروبا على أمهات المؤمنين وجميع المؤمنات.
وفي كتاب النكاح لصحيح الإمام مسلم بن الحجاج ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بذبح شاة.
قال ابن عباس  رضي الله عنهما  كان ناس من المؤمنين يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، ويقاعدون إلى أن يدرك، ثم يأكلون، ولا يخرجون فنزلت. وكانت رضي الله عنها اسمها برة فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب.وبنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا بد أن تلتهب نيران الغيرة في نسائه رضي الله عنهن، فإن ذلك أمر طبيعي، فمثلهن لا بد أن يغرن على مثله، ولا سيما وأن هذه العروس لها مكانتها من جهة القربى منه صلى الله عليه وسلم، ثم إنها رزقت جمالا وملاحة وصباحة ... فضلا عن أنهن جميعهن زوجهن أولياؤهن، لكنها  أي زينب  زوجها الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات.. فكان قمينا بها وحريا بها أن تفخر عليهن جميعا.
وكانت عائشة أولى المضرورات نفسيا من ضرائر زينب، فقد كانت قبل ذلك لا تجد من تمكن أن تكون شاغلة لمكانتها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وها هي ترى زينب بجمالها وبهائها ووضاءتها، منافسا قويا شديد المراس قوي الشكيمة.
وقد ذكر صاحب السيرة، وابن عبد البر في الاستيعاب وابن حجر في الإصابة أن عائشة رضي الله عنها قالت:  لم تكن واحدة من نساء النبي تناصبني غير زينب.
إنصاف الضرة
لما كان حديث الإفك كارثة وقعت  ابتلي بها  وفتن فيها كثير من الناس، وكانت السيدة عائشة  رضي الله عنها  العفيفة الحصان دريئة وهدفا وغرضا لألسنة المتخرصين والمنافقين وأعداء الإسلام  وذلك للزراية والطعن والثلب في مقام النبوة والقدح في أمهات المؤمنين، المصونات العرض، النقيات الجيب، الطاهرات الذيل، رضي الله عنهن وأرضاهن.
لكن نفرا من العقلاء تورط أيضا في هذا الموضوع وتكلم بما لا يعلم غير السماع، ولا سيما بعد أن فشا أمر الحديث بين الصادر والوارد، وتكلم به آحاد الناس وأصبح في وقت من الأوقات حديث أكثر البيوت.
ثم إن زينب بنت جحش كانت الضرّة الأولى في مواجهة عائشة، والتي كانت تشعر بغيرة وحساسية خاصة تجاهها، وكان مظنونا ومتصورا أن تفرح زينب أو تخوض في هذا الحديث الذي كثر فيه القيل واللغط، فقد تصونت وتأنفت وترفعت عنه، ونزهت نفسها عن التورط فيه وكانت محتاطة لدينها كل الاحتياط فحفظها الله وصانها ... وليس أدل على هذا مثل ما قالته السيدة عائشة نفسها التي فوجئت بذلك الموقف النبيل الكريم من أكثر وأقوى ضرائرها، فقالت:وكان كبر ذلك الإفك عند عبد الله بن أبي سلول في رجال من الخزرج  مع الذي قال مسطح، وحمنة بنت جحش  وذلك أن أختها زينب كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن امرأة من نسائه تناصبني في المنزلة عنده غيرها ... فأما زينب فعصمها الله تعالى بدينها  فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة بنت جحش فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضارني لأختها، فشقيت بذلك .
ثم تنعتها بعد ذلك عائشة بأطيب النعوت وأكرم الصفات  وأجل السجايا فتقول رضي الله عنها:ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب  وأتقى لله  وأصدق حديثا  وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي يتصدق به ويتقرب به إلى الله عزوجل . لقد كانت زينب صوامة قوامة، صناعا وتتصدق بذلك كله على المساكين، فكانت لذلك مفزعا للأرامل واليتامى، وكانت أيضا أطولهن يدا في الخير والبذل والعطاء حسبة لوجة الله تعالى..... كان هذا العطاء المبذول لأهل رحمها والعفاة من أهل الحاجة المكروبين والمضرورين الذين عضتهم الفاقة، وأتى عليهم المحل والإسنات.
كانت زينب في أمهات المؤمنين أطولهن يدا بالصدقة وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا» ... وكانت زينب صناع اليدين:
تدبغ وتخرز وتتصدق في سبيل الله.
وفي سنة عشرين خبا ضوء المصباح، وأفل النجم الزاهر، وانطوى سجل الخير الحافل بالذكريات الطيبة، وأعمال البر المبرورة، وعطاآت الخير غير المحدودة من أم المؤمنين.
وتصعد الروح الكريمة السخية إلى بارئها، فتدع حياة الشقاء وشقاء الحياة، لتحظى بالقرب من ساحة الحق التي طالما اشتاقت إليها النفس، وتعلق بها الوجدان فتكون أقرب أمهات المؤمنين لحوقا بالمصطفى صلى الله عليه وسلم ليصدق قوله عليه الصلاة والسلام وهو الصادق المصدوق  لأنها أطولهن يدا لما تسديه يدها البيضاء الصناع في سبيل الله ولقاء وجهه الكريم فطوي لها مع الأبرار والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاوالحمد لله رب العالمين.










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Designed by Templateism | MyBloggerLab | Published By Gooyaabi Templates copyright © 2014

صور المظاهر بواسطة richcano. يتم التشغيل بواسطة Blogger.