Our Blog

الدرس الثالث من سلسله أمهات المؤمنين

سلسله أمهات المؤمنين رضي الله عنهن
الدرس الثالث من سلسله أمهات المؤمنين (عائشه)
==============================
عائشة بنت أبي بكر   الصديقة بنت الصديق :
(9 ق هـ- 58 هـ) (613 م- 678 م)
هي عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة  عبد الله بن عثمان من أشراف قريش  أفقه نساء الأمة  وأعلمهن بالدين وفقه الشريعة، وأكثرهن إحاطة بأدب العرب، وكانت رضي الله عنها تكنى بأم عبد الله  وقد تزوجها رسول الله صلى عليه وسلم في السنة الثانية للهجرة.
كانت عائشة أم المؤمنين هي الوحيدة التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم  وبنى عليها بكرا دون أمهات المؤمنين جميعهن اللاتي تزوجهن كلهن ثيبات.
وكانت رضي الله عنها أقربهن من قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحبهن إليه  وأكثرهن رواية عنه  ولها خطب وآراء حديثية دقيقة مشهودة  وقد ثبتت في كتاب الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة  وكانت فصيحة ذكية نبيهة  على قدر كبير من النباهة والزكانة والجمال والفصاحة.
وكانت إذا عرض لها موقف أنشدت فيه شعرا  وقرضت فيه نظما بديعا رائقا رائعا.
كان أكابر الصحابة يختلفون إليها يسألونها عن الفرائض وكثيرا من أحكام الدين فكانت تجيبهم بذكاء ونباهة.
كان مسروق   إذا روى عنها يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق  وقد توفيت بالمدينة سنة ثمان وخمسين بعد هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وقد روت عشرة ومائتين وألفي حديث.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  إن من أمنّ الناس عليّ في ماله وصحبته أبا بكر  ولو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام  .
ولقد ولدت رضي الله عنها قبل الهجرة بنحو ثماني سنوات وكانت نفيسة بنت منبه قد خطبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عمرها ست سنوات  في صباها الباكر  وكان أبوها  رضي الله عنه  أقرب وأحب الناس إلى قلب وعقل ووجدان النبي صلى الله عليه وسلم.
كان أبو بكر  رضي الله عنه  من أشراف مكة  دمث الأخلاق  طيب العشرة  كريم العنصر  طيب الأرومة  لين الجانب  سهل الطبيعة  مرضي الأخلاق. قالت عائشة: ( لم أعقل أبويّ قط إلا وهما يدينان الدين ) وهو حديث صحيح أخرجه البخاري.
وما كان رسول الله صلى الله عليه ليطيق غياب صاحبه عنه  فلم يمر يوم واحد لا يراه فيه  فهو يختلف إليه كل يوم تقريبا  من ثم كان رفيقا له في هجرته من مكة إلى المدينة  وقد اختبأ معه في غار ثور.
وكان أبو بكر نسابة  عالما بالأنساب والتواريخ فكان إذا لقيه قوم يسألونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستعمل معاريض الكلام استعمالا جميلا رائعا سائغا مقبولا  فكان يقول عنه صلى الله عليه وسلم: إنه هاد يهديناي الطريق.فهو لا يخبرهم بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يتعرض صاحبه عليه الصلاة والسلام للأخطار  وكانت هذه من أجمل المعاريض  والتي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب.  وسئل صلى الله عليه وسلم: ممن القوم أنتم؟ قال:(نحن من ماء) وهذا من أروع وأجمل وأدق معاريض الكلام.
كانت أم عائشة رضي الله عنها أيضا ذات حسب ونسب فهي أم رومان
بنت عمير بن عامر الكنانية   وكانت في الجاهلية متزوجة من عبد الله بن الحارث الأسدي  وأنجبت منها ولدا هو الطفيل  وبعد وفاة زوجها اقترنت بأبي بكر وأنجبت منه عائشة رضي الله عنها وأخاها عبد الرحمن.
كانت هذه السيدة الفاضلة الكريمة الحسيبة النسيبة درة غالية  ذات جمال وبهاء وعقل وحكمة وفطنة  قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين  فلينظر إلى أم رومان) .
كان جمال عائشة رضي الله عنها ظاهرا  فقد كانت عروسا مليحة  عيناها نجلاوتان  وجهها مشرب بالحمرة  شعرها جعد  جسمها خفيف.
وكانت أصولها قد امتدت وترعرعت من أطيب عنصر وأكرم جرثومة  فإن قومها وعشيرتها  وهم بنوتيم  مشهورون بالشجاعة والكرم والسخاء والجود والأريحية والأمانة وسداد الرأي  وحسن المودة  وحسن العشرة.
لم يكن يشاكه عائشة أو يقاربها في الفضل الا خديجة رضي الله عنها، التي لم تبرح مخيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم برهة من زمانه  ولم تزايل حركاته أو سكناته  فهي غائبة حاضرة بروحها معه، تظاهره وتشايعه في كل موقف صعب، ومع كل حادث جلل.
كان إذا ما تذكر خديجة دمعت عيناه  ووكفت وهضبت محاجره أسى ولوعة للفراق  ثم يترحم عليها ويدعو لها لقاء ما تركته من ذكريات طيبة كريمة.
بيد أن عام الحزن الذي فقد فيه الحبيبة وعمه أبا طالب كان قد كبده أثقالا فادحة غير محتملة  لا يقدر عليها بشر غيره  فكان في عائشة السلوى والتسرية وفي كنفها منادح ومسارح لنفسه المكدودة المنهوكة من تباريح الشوق ومواجيد الفراق.
ونعى الناعون، وأسرف الغالون  وأغرق الجاهلون في التثريب واللوم والإنحاء على رسول الله صلى الله عليه أن يتزوج من عائشة رضي الله عنها وهي في التاسعة من عمرها وهي في الصبا الباكر  في عمر الزهور وفي مقام بنت من بناته صلى الله عليه وسلم.
ثم إنها في هذه السن الصغيرة لم تكن على دربة أو ممارسة أو بصيرة أو استئناس بمقتضيات الزواج  وما يتطلبه من أمور اجتماعية وشخصية ونفسية  فأنّى لصبية صغيرة أن تعرف أو تدرك شيئا من هذا؟!!
لكن هؤلاء نسوا أو جهلوا أن البيئة والجزيرة العربية لم تنكر هذا أبدا بحال، ففيها أمثلة كثيرة مضروبة على هذا، الأمر الذي يدل على سبيل القطع بأن هذا التزويج كان مقبولا وسائغا، ولم يكن مستهجنا ولا مستغربا أن يقع.
والدليل على ذلك ان سيدنا عمر بن الخطاب   رضي الله عنه كان تزوج من بنت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو في عمر أبيها ولم ينكر أحد عليه ذلك.
ثم إن عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تزوج من هالة ابنة عم آمنة بنت وهب وهو شيخ كبير طاعن في السن كان ناهز العمرين  وقدأكل الدهر عليه وشرب  وقد زايلته ميعته  وولت شرته  ولانت قناته  وطارت شبيبته  وكان زواجه منها وبناؤه بها في نفس اليوم الذي تزوج فيه أصغر أبنائه عبد الله من آمنة بنت وهب.
وفي كل عصر ومصر يكثر ويتواتر تزويج الفتيات الصغيرات من شيوخ كبار في السن متقدمين في العمر في سن آبائهن أو أجدادهن  ويتلقى المجتمع والناس هذه المسائل بالرضى والقبول والتسليم  وهي أحداث مكرورة كثيرة الحدوث  ولم ينكر أحد على أحد، ولم يثرّب إنسان في هذا على أحد بحال.لكن عندما يكون هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد أن تثور الثورات  وتتفجر الزلازل والبراكين  وتقوم الدنيا في الحال ولا تقعد أبدا  حيث إن المستشرقين يعمدون إلى النيل من هذا الدين، ومن شايعهم من أولئك المغموزين المصدورين الموتورين، وهذا النيل يتمثل في تفنيد الأباطيل والأراجيف والتخرص الكاذب غير الكريم والافتئات على الحق والحقيقة والإنحاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يليق، وهو الذي أعزه الله  ورفع شأنه  وأعلى ذكره في العالمين  ولو كره الكافرون ولو حنق الجاهلون.
كان تزويجه صلى الله عليه وسلم في كل أحواله بأمر الله  ولم يكن زواجا كما يحدث بين آحاد الناس  إذ إن الله تعالى هو الذي اختار له صلى الله عليه وسلم  ولذلك يطيب لي أن يقول المؤرخون وكتاب السيرة وتراجم النبوة عندما يتعرضون لهذه المسألة: تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا زواجه  وذلك لقوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها
ذكر ابن حجر في الإصابة  والإمام الطبري في تاريخه المعروف: مراسم زفاف عائشة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  وقد نقلناه بتصرف على لسان السيدة عائشة  تقول الصديقة بنت الصديق:
(جاء رسول الله إلى بيتنا  فاجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء  فجاءتني أمي وأنا في أرجوحة بين عذقين  فأنزلتني ثم سوّت شعري  ومسحت وجهي بشيء من ماء  ثم أقبلت تقودني حتى إذا كنت عند الباب  وقفت بي حتى ذهب بعض نفسي  ثم أدخلتني ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا  فأجلستني في حجره  وقالت: هؤلاء أهلك  فبارك الله لك فيهن  وبارك لهن فيك) .
ووثب القوم والنساء فخرجوا  وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي  ما نحرت علي جزور  ولا ذبحت من شاة  وأنا يومئذ ابنة تسع سنين  حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله  .
ثم حمل إليهما كذلك قدح من لبن  شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم منه  ثم تناولته العروس على استحياء فشربت منه  .

ماذا كانت شقة الزوجية التي أعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم المصطفى المجتبى المختار من خلق الله إلى العروس الصبية فاتنة قريش  وأم المؤمنين  التي بنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرا دون نسائه أمهات المؤمنين الآخريات اللاتي كنّ جميعهنّ ثيبات؟؟
لم يكن بيت الزوجية الذي استقبل هذه العروس الحلوة الجميلة المليحة إلا حجرة ملحقة بالمسجد مشيدة من اللبن  وسعف النخيل  ولم يكن يحتوي  فراشها فيها غير أدم حشوه ليف  ليس بينه وبين الأرض إلا الحصير  وعلى فتحة الباب أسدل ستار من الشعر.
هذا البيت المتواضع البسيط الذي مدّ أفياءه على خير مخلوق  وأكرم مبعوث، وأجمل عروس، وأذكى فتاة، وأكرم عقيلة، هذا البيت كان نموذجا ومثلا حيا للتواضع والزهد وصفاء العنصر، وعدم التكلف الذي يرغب إليه كثير من الناس، فإن الذي استدبر الدنيا  وأعرض عنها  واتجه للآخرة وسعى لها سعيها  يكون في كل أطواره ومختلف أحواله زاهدا في زخرفها متزجيا منها باليسير  متبلغا بالقليل  مكتفيا بما يسد الرمق.
لم يكن عرس عائشة ولا بيتها متكلفا ولا مبالغا فيه  لكنه كان مقتصدا ولسان حاله صلى الله عليه وسلم يقول:  وما أنا من المتكلفين  .
وهذا مثل يجب أن يظل مضروبا في كل الأعصار والأمصار عند النسب والمصاهرة  ألا وهو وجوب توافق العناصر  وتواؤم الطبائع  والتقاء الأرواح وتعانق القلوب  وطهارة الدخائل  هذا كله قبل إعداد شقق الزوجية  والإنفاق بالسرف على النوادي والحفلات الصاخبة التي تهدر فيها آلاف الجنيهات في ولائم مبالغا فيها يحضرها الأغنياء  ولا يأتيها الفقراء. تفتحت عينا العروس الصغيرة على بيت الزوجية بما فيه من مسؤوليات وتبعات  لكنها لم تكن تدرك أبعاد الحياة الجديدة  إذ إنها لا زالت تمرح على مدارج الطفولة وتسرح في منادح الصبا.
وكانت هذه الطفولة البريئة تسعد رسول الله صلى الله عليه وسلم  ولم يكن ليضيق بها أبدا  فهو الذي كان يأتيها بصواحبها ليلعبن معها  هذه الصبية الغرير اللاعبة. وتارة أخرى كان يحملها صلى الله عليه وسلم على عاتقه  لتطل على نفر من الحبشة يلعبون الحراب ...
كل هذا يبين لنا سعادته وغبطته عليه الصلاة والسلام بذلك. وقد ذكر هذا الإمام البخاري في صحيحه  وأحمد في مسنده.
وكانت دائما تذكر شهر شوال بالخير وتستحب لنسائها أن يدخلن فيه  لأنها خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  ثم بنى عليها في شوال أيضا. وهذا دليل قاطع على شدة حبها وتعلقها  بل وامتلاء قلبها بحب حليلها صلى الله عليه وسلم.
وكيف لا يكون هذا الحب الجارف متمكنا من حبات كيانها وهو من هو عليه الصلاة والسلام وسامة وقسامة وجمال خلق واستواء بنية  واستقامة منهج ونبي أمة  ورسول بعثه الله تعالى للعالمين بشيرا ونذيرا وهاديا إلى أحسن طريق وإلى أقوم سبيل ...
إن حبها له صلى الله عليه وسلم كان في واقعه وحقيقته كسبا وغنما للدنيا والآخرة  ومن ذا الذي ينعم بسعادة الدنيا والفوز بالآخرة  ولا يحب من أسدى إليه سعادة الدارين  من إسباغ نعمة الدنيا مع نعيم الجنة.
هذه العروس التي لم تشب عن الطوق بعد  ولم يعجم عودها تجريب  إذ كان غصنها رطبا لدنا  كانت أحوج ما تكون إلى الملاطفة والملاعبة التي كفلها لها رسول الله صلى الله عليه وسلم  وكان مسرورا بها كل السرور.
ومع تعلق قلبه صلى الله عليه وسلم بالفاتنة الحسناء لما كانت مطبوعة عليه من براءة ولما كانت مفطورة عليه من سجية نقية مبرورة  ودخيلة صافية  مع تعلقه بها وحبه إياها حبا جما كثيرا  إلّا أن هذا الحب الكبير لم ينسه خديجة ولا ذكراها العطرة  ولا الأيام الحلوة الخوالي التي أنفقها معها  ولا الليالي الهادئة التي عاش فيها بين دفء أحضانها  ورقة شعورها.
وكانت غريزة الأنوثة دائما تحرض وتهيج عائشة رضي الله عنها على الغيرة  وتحفزها وتستحثها على الضيق الذي كان مضمرا مكتوما في صدرها  محبوسا مكبوتا في طويتها  لم يطّلع عليه أحد  ولم يعرفه إنسان.
ولعل الفطرة التي جبلت عليها النسوة  وهي القاسم المشترك في كل منهن  هي أن الواحدة منهن ترغب في امتلاك زوجها ولا ترضى أن يلتفت عنها إلى غيرها لا كليا ولا جزئيا  سواء كانت ضرة أو غيرها  حليلة أو خليلة  ولا يمكن لعائشة ولا غيرها أن تسيغ حياة الضرائر بوجه من الوجوه. وكانت عائشة رضي الله عنها على حق في غيرتها الشديدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يدانيه بشر في خلقه ولا خلقه  ولا يرقى إليه في جمال بدنه وجمال روحه بشر ...
فأنّى لزوجة له لا تغار عليه  وهو من هو لا ضريب له في عالم الرجال  ناهيك بعالم المثل العليا والأخلاق الراقية المعصومة من أوضار الهوى  ونزوات النفوس  وأرجاس الشهوات.
كلما ذكر عليه الصلاة والسلام خديجة وزير الصدق على الإسلام  وكلما تذكر قبرها بالحجون  وكفت وهضبت عيناه وبدا على محياه الشريف  وعلى وجهه الكريم التأثر الشديد  والأسى البالغ بما لا يستطاع كتمانه أو دفعه أو تجفيف منابعه. كان هذا الاختلاج والتفاعل الشعوري واللاشعوري مرئيا ملحوظا على صفحة وجهه صلى الله عليه وسلم يراه القاصي والداني  ولا ينكره صلى الله عليه وسلم  وتهيج الذكر بين فينة وفينة، ومن حين لاخر.وقد زاد من حزن عائشة  وحمل عليها من لواعج الأسى ومواجيد القسوة عدم إنجابها الولد لرسول الله صلى الله عليه وسلم  لأن العرب يدركون أن الولد به تقر العيون  ويزيد ويضاعف من الحب والمودة. قال تعالى:وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً. قال العلماء المفسرون: إن المودة هي الجماع  والرحمة هي الولد. وإنجاب الولد ثمرة جنية شهية تكلف بها النفس ولا تفرط فيها أبدا.
وبينا ولدت لمحمد صلى الله عليه وسلم زوجه العجوز خديجة البنات والبنين  زهرة العمر  وربيع القلب  كانت عائشة رضي الله عنها عقيما عاقرا لا تنجب ...
فضاعف هذا من أساها ولوعتها  وحرقتها وشوقها إلى التعقيب والإنجاب  ولا سيما ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذكر خديجة بقوله ... ورزقت منها بالولد .
لكن لا بد من التسليم لأمر الله سبحانه وتعالى  فلا يمكن أن يقع مقدور إلا بإذنه  ولا يخرج مقدور عن قدره سبحانه وتعالى ولا عن قضائه.
من ناحية أخرى كان تعلقه صلى الله عليه وسلم ببناته من خديجة رضي الله عنها له نفس الأثر المرهف للشعور بوطأة الحرمان  وأوام العطش لإرواء ذلك النهم والرغبة الملحة باستمرار في الإنجاب  لكن لا سبيل إلا التحمل والتجمل.وكثيرا ما كان صلى الله عليه وسلم يواسيها مما يقاسيها وتقاسيه من لواعج الشوق ولهفة ولوعة الحرمان بلطيف اللفظ ورقيق الكلمات  ورفيف الملاطفات والملاعبات  حتى يزيح عنها هذا الكابوس الضاغط الخانق الذي يجثم على صدرها غير مترفق بها  إذ لا يريم ولا يزايلها طرفة عين.ولا عبرة ولا حجة لمن زعم أن عائشة رضي الله عنها قد ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدا مات   طفلا في مهده  ولا عبرة أيضا بتوهم الواهمين من أنها أسقطت   سقطا منه صلى الله عليه وسلم  إذ إن هذه آثار موضوعة مكذوبة ولو كان شيء من هذا صحيحا لتواترت به الأخبار  ولم تكن ليخفى أمرها على الصادر والوارد.
كان تأكيده صلى الله عليه وسلم على حبه عائشة أمرا مفروغا منه لكن كان يجدده ليطيب خاطرها  ويمسح عنها مكتنف الهموم ومشاعر الأسى ولوعة ولواعج البرحاء. قال صلى الله عليه وسلم: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام .
ولما سأله عمرو بن العاص عن أحب الناس إليه قال صلى الله عليه وسلم:عائشة  قال: من الرجال  نقصد يا رسول الله؟ قال:  أبوها.
كان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم محتويا على صفوة من أمهات المؤمنين من خيار نساء الأمة رضي الله عنهن وأرضاهن  مثل عائشة وحفصة بنت عمر بن الخطاب  وابنة عمته زينب بنت جحش مطلقة متبناه زيد بن حارثة  والفاتنة الحسناء المترفعة أم سلمة بنت أبي أمية زاد الركب  والغانية البارعة الجمال جويرية بنت الحارث  ثم أم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم مكة وقائد جيشها المطاع المسموع الكلمة  ثم أم ولده إبراهيم مارية القبطية.
كان لا بد أن تستعر حرب الضرائر الشعواء الضروس التي لا يخبو أوراها ولا يسكن لهيبها  وكان هذا الصراع نتيجة انقسام النساء إلى معسكرين  أو جبهتين متقابلتين  الجبهة الأولى بقيادة عائشة  والآخرى جبهة صلبة أيضا لا تقل ضراوة وصلابة عن الأولى.
وكان طبيعيا أن يضيق رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرب الضرائر الضروس المشتعلة  وكان لا بد أن يتخذ إجراء لردع هذا الصراع أو على الأدنى التقليل من حدته  فقرر صلى الله عليه وسلم أن يعتزلهن جميعا شهرا كاملا....
وسرت الأنباء  وطارت الشائعات هنا وهناك تبث في كل مكان  وتفري الفري بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلّق نساءه جميعا.
هذا الخبر المكذوب الذي لا ظل له من حق ولا حقيقة تناقله الناس همسا في مجالسهم ومنتدياتهم لغرابته  ثم إن ذلك في حالة صدقه لا يكون إلا لأمور في غاية الشدة والتعقيد  والناس مغرمون من قديم باستطلاع هذه الخصوصيات التي تقع ما بين آحادهم  لكن عندما يكون الأمر خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يكون أمرا ذا بال  ولا يحتمل السكوت عنه  في نظرهم .
ولم يكن مستغربا أن تلوك الألسنة هذا الخبر من قطاع كبير من الناس  فمن كان من المسلمين كان مفزوعا لهذا راجيا أن يكون الخبر غير صادق  وسائلا الله عزوجل أن يدفع عن حبيبه ومصطفاه كل هم وغم وبلاء  حتى يتفرغ لرسالة ربه  وما نيط به من مسؤلية التبليغ.
أما الكافرون فيستثمرون أي اضطراب ولو كان قليلا أو غير ذي بال لإحداث الشائعات والبلابل  كالنار التي ترعى الهشيم للثلب والطعن في النبي والنبوة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان في كلاءة ربه وحفظه،
كان محوطا محفوظا مرعيا بعناية الله وتسديده وتمكينه بالمناعة الإيمانية  وصدق اليقين وحسن الظن بالله. أضرب النبي عنهن شهرا كاملا لولا أن تدخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لدى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان نتيجة ذلك أن ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمر صفحا  فأضرب عن هذا الإضراب عنهن  فكان خبرا سارا سعيدا سرى إلى نسائه يبسر بعودته صلى الله عليه وسلم إليهن مرة أخرى  فطرن غبطة وسرورا  ووقفن على أمشاط أرجلهن احتفالا واحتفاء برسول الله صلى الله عليه وسلم  لأن رضاه من رضى الله تعالى  وغضبه من غضب الله تعالى  أعاذنا الله منه  ولكنها معاشرة الضرائر  ومكايد النسوة  ولعن الله الشيطان وتسويله  ودسائسه وتغريره ...
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الى البيت بعد جفائه شهرا  ثم توجه إلى غرفة عائشة رضي الله عنها  وهي التي ألّبت عليه  وأذكت روح التمرد والثورة عليه صلى الله عليه وسلم  وكان عليه الصلاة والسلام يعرف ذلك ولم ينكره  ولكن الحب شافع لا يرد والهوى غلّاب.
كان القدر مطويا  والغيب المحجوب يحمل في طياته محنة وابتلاء لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها  حيث كان ينتظرها مقدور محتم لا محيص عنه  ولا مناص منه ألا وهو حديث الإفك ... الذي كانت به أولى نسائه صلى الله عليه وسلم  ورضي عنهن  كانت أولاهن محنة بهذا الحدث الجلل المكذوب المفترى المختلق.
عند عودته صلى الله عليه وسلم ظافرا منتصرا من غزوة بني المصطلق  كانت السيدة عائشة بصحبته  وفي الطريق بالقرب من المدينة  وعلى مشارفها  تلبث الركب وتلوم بعض الوقت ليلا للاستجمام بعض الوقت  ثم أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل  فارتحلوا ثم أغذوا السير في طريقهم  وقد اقتيد وسيق بعير عائشة رضي الله عنها إلى بيتها  وكانت المفاجأة الكبرى التي أذهلت الجميع أن تبين أن الهودج كان خاليا  ولم تكن عائشة فيه.واستطار الخبر وفشا وذاع الى كل حدب وصوب في مختلف أرجاء المدينة  وكسر في ذرع كثير من الناس من هول المفاجأة التي نزلت  والنائبة التي نابت.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يلتمس طريقها بحثا عنها وبغتة ظهرت على مدى الأفق البعيد تركب بعيرا يقوده صفوان بن المعطل السلمي   .
لقد انطلقت  من جراء هذا المشهد  ألسنة الخراصين وأطلقت الشائعات يدها الأثيمة في عرض أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق  وانسابت الأفاعي الحاقدة بفحيح الغيظ لتنهش لحم البريئة المغبونة المظلومة المهضومة الصديقة بنت الصديق، طعنا وثلبا وتجريحا وزراية على بيت النبوة الطاهر المصون العفيف الزكي.
أما عن سبب تأخر عائشة عن الركب فهو أنها كانت خرجت لبعض حاجتها قبل أن يؤذن في الناس بالرحيل  وفي عنقها عقد لها فيه جزع ظفار  فلما فرغت انسل من عنقها وهي لا تدري، أي انفرط العقد ولم تشعر به  فلما رجعت الى الرحل ذهبت تلتمسه في عنقها فلم تجده  وكان الناس أخذوا في الرحيل  فرجعت إلى مكانها الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته، وجاءالقوم فرحلوا بعيرها  وأخذوا الهودج وهم يظنون أنها فيه  فاحتملوا الهودج فشدوه على البعير  ولم يشكوا أنها فيه  ثم أخذوا رأس البعير  فانطلقوا به  فرجعت إلى المعسكر  وما فيه من داع ولا مجيب  قد انطلق الناس ...
فتلففت بجلبابها  ثم اضطجعت في مكانها  وعرفت أن لو قد افتقدت لرجع إليها ...
ثم تقول بلسانها رضي الله عنها:
(فو الله إني لمضطجعة  إذ مرّ بي صفوان بن المعطل السلمي  وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته  فلم يبت مع الناس فرأى سوادي  فأقبل حتى وقف علي فلما رآني قال:إنا لله وإنا إليه راجعون  ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما خلفك يرحمك الله؟!فما كلمته ... ثم قرّب البعير  فقال: اركبي  واستأخر عني  فركبت  وأخذ برأس البعير  فانطلق سريعا يطلب الناس  فو الله ما أدركنا الناس وما افتقدت  حتى أصبحت ونزل الناس ... ) .
هذا القول سمعه منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليها منه شيئا  ولم يتطرق إلى ذهنه شك أو ريبة أو هاجس  ولم يداخله حدس أو ترجم بغيب أو مظنة سوء بحال من الأحوال ...
إذ إن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع كلامها  لم يعلق بخاطره من هذا الموضوع شيء البتة ولا فكّر فيه برهة من زمان  لأن الموضوع لا يستحق ولا يقتضي جهدا في التمحيص وإعمال الذهن لأنه لا شيء فيه غير طبيعي.
بيد أن أعداء الإسلام المجرمين من المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر  وكانوا من المتربصين لأدنى هفوة لينسجوا على منوالها افتراآتهم ومنحولاتهم المكذوبة  زراية وطعنا في الدين  أولئك المرجفون الخراصون لم تأخذهم شفقة ولا هوادة  ولم يراعوا إلا ولا ذمة فأفرخت على أيديهم الفرية  واستطار الخبر  وتنوقلت الروايات والتأويلات غير الكريمة التي تنطوي على غمز وعلى لمز خبيث لئيم.
كان على رأس المنافقين عبد الله بن ابي بن سلول   غضب الله عليه ولعنه  وكان مقصوده اللعين من هذا أن يشغل بال رسول الله صلى الله عليه وسلم  ويزيد من همومه فيلتفت عن مهمته الأصلية إلى قضايا فرعية  ومسائل جدلية جانبية  إلى جانب اللمز والطعن في طهارة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق شيخ الصحابة.
ولم تكن الفرية موقوفة عند المنافقين وحدهم  وإلّا هان الأمر نسبيا  لكنها امتدت أيضا حتى تراوحت وتنوقلت عن بعض المقربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم  بل ومن أقرب الناس منه مثل حسان بن ثابت   شاعر النبي صلى الله عليه وسلم  ومسطح بن أثاثة   قريب أبي بكر وموضع حدبه وبره والطافه  وكذلك حمنة بنت جحش ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم  وأخت زوجته زينب بنت جحش.
ظل هذا الموضوع حديث الناس وشاغلهم  الصادر منهم والوارد على مدى شهر كامل ... حتى بلغت الطامّة أقصى مداها  وغاية منتهاها  وذلك بوصول هذا الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  ونما إلى أبي بكر رضي الله عنه  وكذلك إلى زوجه أم رومان  وكانت ثالثة الأثافي والأسى والحزن الذي لا مزيد عليه  وما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن جفا عائشة وبدت على مخايل وجهه الكريم ما لم يسبق رؤيته عليه من كابة وحزن وامتعاض  وشعرت أم المؤمنين عائشة أنها صارت معدولا ومرغوبا عنها  مزهودا فيها  شبه متروكة ... فأثر هذا الشعور فيها وعليها أبلغ التأثير ...
إن الإدبار بعد الإقبال  والنفور بعد التعلق من أبلغ العقوبات عند آحاد الناس  لكنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون ذا بلاغة مخصوصة لا تدانيها بلاغة  بل ويكون من أغلظ العقوبات المهذبة الكريمة ... ولم تطق السيدة عائشة رضي الله عنها هذا الجفاء غير المسبوق من حبيب القلب والروح ... فاستأذنته أن تذهب بيت أهلها ... فأذن لها على الفور ... وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم  هو الذي طلب منها ذلك. وعلى أية حال فقد كانت صدمة أبي بكر وأم رومان، من أصعب وأشق ما نزل بهما في حياتهما.
ولئن كانت الأعراض مصونة، والاقتراب منها أو محاولة الطعن فيها جريمة غير مقبولة تماما مهما كان التبرير، إلا أن الأمر عندما يكون مختصا بابنة أبي بكر بن أبي قحافة يكون أكثر فداحة وخسارة والذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:كل من أسدى إلينا يدا كافأناه بها ما خلا أبا بكر فإن له يدا يكافئه الله بها يوم القيامة  ويقول:  وما نفعني مال مثل مال أبي بكر  فرضي الله عنه وأرضاه.
وفي مرض موته يقول صلى الله عليه وسلم:سدّوا هذه الشوارع ... في المسجد  ما خلا خوخة أبي بكر  فإني لا أعلم أحدا أحسن يدا عندي في الصحبة منه  كان توأم روحه  ونهمة نفسه  ومنتهى سعادته.
لم يمض على عائشة أكثر من ثلاثة أسابيع تقريبا كانت مريضة ملازمة للفراش  وما إن أفرقت وتماثلت للشفاء حتى دهمتها الفاجعة المؤلمة ... وكان لا بد أن تعلم  لكن المؤلم أنها كانت آخر من يعلم  ولم يكن جوابها عن ذلك إلا العبرات السخينة  والاهات المكتومة  ولم يرقأ لها دمع  ولم تكف لها محاجر  ولم تغمض لها عين  فلم يعد يزورها النوم طرفة عين  وكيف تنام أو تقر عيونها  وحديثها في كل بيت وعلى كل لسان  حيث صارت عائشة وقضيتها حديثا.تبودلت الاتهامات بين قبيلتي الأوس والخزرج  فكل فريق ينحي باللائمة على الاخر  ويرميه بالمسؤولية أنه كان مصدرا للقيل والقال ... وكان التقاء كلا الفريقين وشيكا  وكادت الحرب تستعر، وتلتهب جمرتها بينهم ...
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتابا ولا شاكا في أهله، ولكن فداحة الخبر  وسهولة انطلاقه على الألسنة  وتورط كثير من المقربين والعقلاء فيه مع سلامة صدورهم  ونقاء طوياتهم  وطهارة إيمانهم  كان مهيجا لكثير من الهواجس والخواطر التي تأتي وتذهب فتظاهرت كلها في صورة تداعيات متلاحقة تستوجب وتقتضي إعادة التقويم، وإجالة الفكر، ومعاودة النظر ... هذه التداعيات وما يعتورها ويكانفها ويلازمها من هموم وأشجان ظلت تراوح رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناوشه في الليل والنهار  في المنام واليقظة  فلا يستطيع لها دفعا ... وهو يريد ويعمد الى البحث عن أدلة قاطعة لتبرير وتسويغ ما جرى  ولتبرئة أم المؤمنين رضي الله عنها ... لقد كانت الأثقال النفسية على رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبا فادحا لا يمكن تصور جنايته وجريرته وجرمه.
استشار النبي صلى الله عليه وسلم أخلص الناس وأحبهم إليه أسامة بن زيد   حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال أسامة: يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم منها إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل ...
وسأل ابن عمه عليا بن أبي طالب رضي الله عنه قال له: يا رسول الله، النساء غيرها كثير، وإنك لقادر أن تستخلف، وسل الجارية تصدقك ...
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة الجارية فلم تقل عن عائشة إلا خيرا ...
أخذت الهموم من رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مأخذ  لم يستطع لها دفعا، ولا منها فكاكا، ولا عنها مزايلة ...
ثم أخذ طريقه إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه ... ثم اقترب من عائشة ... وطلب منها إن كانت اقترفت ذنبا أن تتوب إلى الله ... وكأن السماء
قد أطبقت على الأرض  وكأن شفرة مطرورة مشحوذة قد أجهزت على رقبتها  وكأن حريقا قد اشتعل في قلبها بنار الغضى التي لا يخبو أوارها  ولا يسكن لهيبها  وتتوقد جمرتها  ويذكو لظاها ... ولم تزد على أن قالت: لن أقول إلّا ما قاله يعقوب:صبر جميل والله المستعان على ما تصفون . والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا  فإن الله يعلم أني بريئة ... ثم أمسكت عن الكلام وقد أخذتها رعدة شديدة  وضربات قلبها مسرعة، ونفسها مبهور  ومحاجرها تهضب بسخاء ...
وبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا بغتة غشاه الوحي  فسجي بثوبه  ووضعت وسادة تحت رأسه  وما هي إلا لحظات غير طويلة حتى سرّي عنه  فجلس يمسح عرقه ويقول:أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله براءتك. ثم خرج إلى الناس يقرأ عليهم قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ .
والإفك هو الكذب المختلق المفترى المكذوب وهو التخرص والإرجاف والبهتان والدعاوى الباطلة الفاحشة  التي لا ظل لها من حقيقة.
قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير:
الإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء  وقد أجمع المسلمون على أنّ المراد ما أفك به على عائشة  وهي زوجة الرسول المعصوم  .
ثم يتوعد القرآن الكريم أولئك الخراصين والمنافقين بقوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ  .
إن المحصنات الغافلات المؤمنات  السليمات الصدور  المبرآت من العيوب  النقيات الجيوب  الطاهرات الذيول لهن درجتهن عند الله تعالى، فمن قذفهن ووقع في أعراضهن  باء بغضب الله تعالى ولعنه وسخطه، والولوغ في الدماء قد يكون أهون مئات المرات من الولوغ في الأعراض  إذ إن الحرة تضيق عليها الأرض بما رحبت وترى الموت أشرف وأكرم لها من مجرد القذف في شرفها  والاستطالة على سيرتها وسمعتها.
قال ابن عباس  رضي الله عنهما هذا اللعن  في الاية الشريفة  فيمن قذف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إذ ليس له توبة  ومن قذف مؤمنة جعل الله له توبة . ذلك لأن قاذف أم المؤمنين متجرئ على كل المؤمنات.
انجلت الغمة  وذهب الكرب  وذهل المفترون  وقتلت الفتنة  وارتفع الحق  ودحض الباطل الزهوق  وأعلى الله ذكر عائشة ورفع درجتها  وشملها بلطفه ورضوانه ليصبرها على هذه البلية التي طعنتها في قلبها  .
لقد تبلج نور اليقين فأزاح ظلمات الريب، وشبهات الراغمين، وارتفع الصدق والحق إلى أعلى درج، وانخسف الباطل إلى أحط وأسفل درك، وظهر أمر الله وأعداؤه كارهون.
بعد ذلك انقضت الأيام يستحث بعضها بعضا  وقد قرت عين أم المؤمنين عائشة  وحمد الله أبو بكر وأم رومان  وعاد الاستقرار وثابت السكينة والرضى بالمقسوم من قضائه سبحانه وتعالى وقدره، وشكرا له على ما أنعم وأفاض من روحه وريحانه.
ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع  ثم عاد إلى المدينة، وقد قربت ساعة الرحيل  بعد أن أدى الأمانة  وبلغ الرسالة  وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
وقد تم تمريضه صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة  وعندما دنت ساعة الرحيل  واقترب وقت الفراق ضمته عائشة إلى صدرها، وكان في يدها سواك من الأراك تستاك به  فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يريده فأعطته إياه فتناوله وشاص به أسنانه، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها:قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري  وجمع بين ريقي وريقه
وكان بديهيا أن تظهر دلائل وأمارات ومخايل هذه الواشجة الروحية الوثيقة من الدنيا إلى الآخرة  فقد دفن صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة. جزاه الله خير ما يجزى نبي عن أمته.
بعد أن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى  بقيت السيدة عائشة رضي الله عنها وحيدة وقد غشيها سكون رهيب وتراوحتها وحشة وحرمان واستيحاش فإن حياة الوحدة أو وحدة الحياة بالغة القسوة والشدة على مثلها وقد كانت ملء السمع والبصر  وملء القلب والفؤاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم  وها هي لم تنجب ولدا ليكون سلوانا وإيناسا لها في غربة هذه الحياة الدنيا.
ثم أرادت عائشة أن تدفع عن نفسها شيئا من تباريح الوحدة وآلام الغربة في الأهل فعمدت إلى أبناء إخوتها تتلمس فيهم وتلتمس منهم أن يسدوا خلتها  ويرأبوا هذا الحرمان الذي تعاني منه وهو الحرمان من الأمومة.
أنزلت لأجل ذلك ابن أختها أسماء (عبد الله بن الزبير) منزل الابن  وكنيت به إذ كان يقال لها:  أم عبد الله  كذلك ضمت إليها القاسم ابن أخيها عبد الرحمن  وابنته وكانت طفلة صغيرة.
لكن الفقه الإسلامي مدين لاراء عائشة القيّمة حيث كان لها دور كبير مشهود يعرفه ويقدره العارفون.
وقد أثر عنها أكثر من ألفين ومائة وعشرة أحاديث. ولما أن بلغت من العمر ستا وستين سنة  وفي ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان عام سبعة وخمسين للهجرة فاضت روحها البريئة إلى بارئها. وفي غسق الليل وعلى أضواء المشاعل  شيعت جنازتها الى بقيع الفرقد فرضي الله عنها وأرضاها. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Designed by Templateism | MyBloggerLab | Published By Gooyaabi Templates copyright © 2014

صور المظاهر بواسطة richcano. يتم التشغيل بواسطة Blogger.