النفاق واثره علي الفرد والمجتمع
العنصر الأول: المنافقون وصفاتهم وخطرهم على الفرد والمجتمع.
العنصر الثاني: خطورة الكذب وأثره على الفرد والمجتمع.
العنصر الثالث : تربية النشء على الصدق ومكارم الأخلاق بين الواقع والمأمول.
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: المنافقون وصفاتهم وخطرهم على الفرد والمجتمع.
النفاق في المصطلح الإسلامي يُطلقُ على إظهار الإسلام قولاً وعملاً، و إضمار الكفر، ومَنْ يكون هذا حاله يُقالُ له “منافق”؛ والمنافق رأسماله الكذب والخديعة، فيتظاهر بالإيمان والعمل الصالح، ليتستَّر بالإسلام على كفره ليأمن من بطش المسلمين، و ليدفع الخطر عن نفسه، ويكون المنافق في الغالب مرتبكاً وخائفاً من الفضيحة.
ولقد جاء الحديث عن النِّفاق والمنافقين في أكثر مِن نصف سور القرآن المدنية؛ إذ ورد ذكرهم في سبع عشرة سورة مدنيَّة مِن ثلاثين سورة، فيما يقرب من ثلاثمائة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم – رحمه الله -: كاد القرآن أن يكونَ كلّهُ في شأنِهم.
ولقد صدر الله سبحانه وتعالى سورة البقرة بذِكْر صفات المنافقين، والتحذير من خَطَرِهم، فذَكَر – سبحانه – في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفَّار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية؛ وذلك لكثْرتهم، وعموم الابتلاء بهم، وشدة فتنتهم وبليتهم على الإسلام وأهله، فهم – كما يقول ابن القيم، رحمه الله تعالى: منسوبون إليه – أي: الإسلام – وهم أعداؤُه على الحقيقة، يخرجون عداوته في كلِّ قالب، حتى ليظن الجاهلُ أنهم على علْم وإصْلاح”
فيا الله! كم من معقل للإسلام هدموه! وكم مِن حصن قد قلعوا أساسه وخربوه! وكم من علم قد طمسوه! وكم من لواء مرفوعٍ قد وَضَعُوه! وكم ضربوا بمعاول الشبه في أُصُول غراسهِ ليقلعوها! فلا يزال الإسلام وأهله منهم في مِحْنة وبليَّة، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون بذلك أنهم مصلحون؛ {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12].
لقد ظهرتْ تلك الفئة في المدينة على عهْد المصطفى – صلى الله عليه وسلم – فتكاثر عددُها، وتناسل أبناؤُها، وامتدَّ نسْلهم – لا كَثَّرَهم الله – إلى زمننا هذا، فَرَأَيْنا أحفادهم في زماننا لا يختلفون في مظْهرهم عنَّا، وهذا مكْمن المصيبة؛ فهم – وللأَسَف – مِن بني جِلْدتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا، وينتسبون لدِيننا، وينتمون لأَوْطاننا.
عباد الله: إن العجيب في القرآن الكريم أن المولى – سبحانه – حصر العداوة في المنافقين دون غيرهم في قوله – تعالى -: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4]؛ وذلك لإثبات الأولوية والأحقية للمنافقين بهذا الوصْف، يقول ابن القيم، رحمه الله -: “لا يراد منه أنه لا عدو من الكافرين سواهم؛ بل المعنى: أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوًّا من الكافرين المجاهرين بكُفْرهم، فإن الحرب مع أولئك ساعة أو أيام ثم تنقضي، ويعقبها النصر والظفر، وهؤلاء – يعني: المنافقين – معكم في الدِّيار والمنازل صباحًا ومساءً، يدلُّون العدو على العورات، ويتربَّصون بالمؤمنين الدوائر، ولا يمكن بل يصعب مناجزتهم”.
قال ابن تيميَّة – رحمه الله -: “والمنافقون ما زالوا ولا يزالون إلى يوْم القيامة”، وكذلك قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – مُعَللاً ذِكْرهم في القرآن: “واعْلَمْ أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم، فذكر – سبحانه – أوصافهم لأوليائه؛ ليكونوا منهم على حذر”. اهـ.
فتعالوا بنا عباد الله نعيش هذه اللحظات مع صفات المنافقين وسماتهم من خلال كتاب ربنا وسنة نبينا حتى نكون على حذر منهم كما أمرنا ربنا {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}.
وكما قيل: عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه……. ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه.
إنَّ مِن أبْرز أوْصاف المنافقين والمنافقات مُعاداة المؤمنين، والتآمُر ضدّهم، وهذه الصِّفة هي التي عليها أُقِيم سوق النفاق وازْدهر، وهي التي جعلتهم يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، ولأجلها يخادِعون ويمكرون، وفي سبيلها أقيمت التحالُفات الآثمة، ونسجتْ خيوط المؤامرات العفنة بينهم وبين كلِّ عدوٍّ للإسلام؛ لذلك أمرنا الله بجهادهم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9]، قال القرطبي – رحمه الله-: “الخِطاب للنبي – صلى الله عليه وسلم – وتدخل فيه أمته من بعده”. وقال ابن عباس -رضي الله عنها-: “أمره الله بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأن يذهب الرفق عنهم”، فجهاد المنافقين – عباد الله – من أَجَلِّ فرائض الدِّين، ولا يقلُّ شأنًا عن فريضة الجهاد ضد الكافرين، وقد ذكر بعض العلماء أنَّ جهاد المنافقين فريضة دائمة، بينما جهاد الكافرين قد لا يكون على الدوام.
وقد حصر لنا نبينا صلى الله عليه وسلم صفاتهم في أحاديث عدة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ” إن للمنافقين علامات يعرفون بها : تحيتهم لعنة ، وطعامهم نهبة ، وغنيمتهم غلول ، ولا يقربون المساجد إلا هجرا ، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا ، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون ، خشب بالليل ، صخب بالنهار “(أحمد)؛ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : ” آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ “( متفق عليه )
ومن أبرز صفاتهم؛ إخلاف الوعد، والكذب، والخيانة؛ والخصام؛ فعن عبدالله بن عمرو أن النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: “أربعٌ مَن كنَّ فيه، كان منافقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمِن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر” (رواه البخاري ومسلم.)
ومن صفاتهم – كما نراهم في كل مجتمع – حلاوة منطقهم؛ وعذوبة لسانهم؛ مع خبث سريرتهم ومكرهم. كما قال الشاعر:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة…………. ويروغ منك كما يروغ الثعلب
فالمنافقون مِن أحسن الناس أجسامًا، وألطفهم بيانًا، وأخْبثهم قلوبًا، وأضعفهم جنانًا؛ كما يقول ربكم – سبحانه – في وصْفه لهم:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4]. قال ابن كثير ” أي : كانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة ، إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم ، وهم مع ذلك في غاية الضعف ، والخور ، والهلع ، والجزع ، والجبن “
ومن صفاتهم أنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف؛ قال تعالى: {والْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].
ومن صفاتهم -أيضا – عدم الصلاة مع الجماعة، وخصوصًا صلاةَ الفجر والعشاء؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم :” أثقلُ صلاةٍ على المنافقين: صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما، لأَتوهما ولو حبوًا ” ويقول ابن مسعود: “ولقد رأيْتُنا وما يتخلَّفُ عنها (أي: صلاة الجماعة) إلاَّ منافق، معلوم النفاق” (رواه مسلم.)
ومن صفاتهم: نشر الفواحش بين المؤمنين؛ قال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(النور: 19)
ومعلوم أن هذه الآية نزلت في شيخ المنافقين عبدالله بن أبى بن سلول؛ وذلك في حادثة الإفك حين العودة من غزوة بني المصطلق؛ غير أن ابن سلول لم يذكر ذلك صراحة ولم تقم عليه البينة أو الدليل؛ وهذا من خبثه ومكره ؛ كيف لا وهو زعيمهم؟! لذلك لم يُقِم الرسول الحد عليه وأقامه على الباقين؛ قال الدكتور البوطي في فقه السيرة:” فقد رأينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بأولئك الذين تفوّهوا بصريح القذف، فضربوا حد القذف وهو ثمانون جلدة؛ وليس في هذا من إشكال؛ إنما الإشكال في أن ينجو من الحد الذي تولى كبر هذه الشائعة وتسييرها بين الناس، وهو عبد الله بن أبيّ بن سلول، والسبب، كما قال ابن القيم: أنه كان يعالج الحديث من الإفك بين الناس بخبث، فكان يستوشي الكلام فيه ويجمعه ويحكيه في قوالب من لا ينسب إليه؛ وأنت خبير أن حد القذف إنما يقع على من يتفوّه به بصريح القول.” أ.ه
ومن أقبح صفات المنافقين الاستهزاء بالدين وأهله؛ وقد ذكر الله عز وجل صورا عديدة في القرآن الكريم تتلى إلى يوم القيامة.
وأشهر هذه الأمثلة ما قاله كبير المنافقين ابن سلول في حق الرسول وصحابته الكرام.
فعن زيد بن أرقم – قال : خرجت مع عمي في غزاة ، فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأرسل إليَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فحدثته ، فأرسل إلى عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه ، فحلفوا ما قالوا : فكذبني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصدقه ، فأصابني هم لم يصبني مثله قط ، وجلست في البيت ، فقال عمي : ما أردت إلا أن كذبك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومقتك . قال : حتى أنزل الله : ( إذا جاءك المنافقون ) قال : فبعث إلي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقرأها رسول الله عليَّ ، ثم قال : ” إن الله قد صدقك ” (أحمد )
ولما علم عمر بقول ابن سلول في حق الرسول؛ قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق؛ قال: لا يا عمر حتى لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه!!
وكان عبدالله ابن سلول له ابن اسمه عبدالله من أجل وأعظم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله ، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلا فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني ، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس ، فأقتله ، فأقتل مؤمنا بكافر ، فأدخل النار . فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” بل نترفق به ونحسن صحبته ، ما بقي معنا “
وذكر عكرمة ، وابن زيد ، وغيرهما : أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله هذا على باب المدينة واستل سيفه ، فجعل الناس يمرون عليه ، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه : وراءك . فقال : ما لك ؟ ويلك . فقال : والله لا تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإنه العزيز وأنت الذليل . فلما جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه ، فقال ابنه عبد الله : والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له . فأذن له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : أما إذ أذن لك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فجز الآن .
ودارت الأيام ومات هذا المنافق؛ مات عبدالله بن أُبَيِّ بن سلول، وأتى ابنُه عبدُلله – رضي الله عنه – إلى النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال: “يا رسول الله، أعطني قميصك أُكفِّنُه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له”. فأعطاه النبيُّ – عليه الصلاة والسلام – قميصَه، وقام ليُصلِّي عليه، فلما سَمِع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ذلك أسرع إلى النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وقال له: “أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين؟”، فقال له: “إني خُيِّرت، فاخترْتُ، لو أعلم أني إنْ زدتُ على السبعين يُغفرُ له لزدت عليها”، يعني قوله – تعالى-: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ} [التوبة: 80]، فقد جاءت الآية بالتخيير بين الاستغفار وعدمه، فلما صلَّى عليه، نزلت الآية الأخرى، وهي قوله – تعالى -: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]. فجاء الأمر الإلهي بعدم الصلاة على جميع المنافقين، ولما حضرت النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة؛ دعا حذيفة بن اليمان – أمين سر النبي صلى الله عليه وسلم- وأعطاه كتابا به أسماء المنافقين ؛ وقال له : إذا مت فلا تصلوا على أحدٍ منهم مات أبدا ؛ ولما علم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك أسرع إلى حذيفة فقال: أقسمت عليك بالله أأنا منهم؟ قال: لا. ولا أبرى بعدك أحداً . يعني حتى لا يكون مفشياً سر النبي (ص).
ومن صور استهزائهم بالرسول وصحابته الكرام ما رواه ابن عمر: أن رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك : ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوبا ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء . يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فقال واحد من الصحابة : كذبت ولأنت منافق . ثم ذهب ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه . فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله وكان قد ركب ناقته ، فقال : يا رسول الله ، إنما كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به الطريق .” قال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقا بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَنكُبُه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. ورسول الله يقول:{ أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ولا يلتفت إليه وما يزيده عليه.(تفسير الرازي)
ومن صفاتهم: المداهنة في الظاهر مع إضمار الخبث والمكر والنفاق.: فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ؛ خَرَجُوا ذَاتَ يَوْمٍ فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: انْظُرُوا كَيْفَ أَرُدُّ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ عَنْكُمْ؟! فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالصِّدِّيقِ سَيِّدِ بَنِي تَيْمٍ، وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ وَثَانِي رَسُولِ اللَّهِ فِي الْغَارِ الْبَاذِلِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ؛ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عُمَرَ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِسَيِّدِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، الْفَارُوقِ الْقَوِيِّ فِي دِينِ اللَّهِ، الْبَاذِلِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ؛ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ وَخَتَنِهِ، سَيِّدِ بَنِي هَاشِمٍ مَا خَلَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَصْحَابِهِ: كَيْفَ رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ؟! فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَافْعَلُوا كَمَا فَعَلْتُ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا، فَرَجَعَ المسلمون إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.!{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ( البقرة: 14)
ومن صفاتهم الغمز واللمز : فعن أبي مسعود قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا ، فجاء عبدالرحمن بن عوف فتصدق بشيء كثير ، فقالوا : مرائي . وجاء رجل اسمه ( أبو عقيل ) فتصدق بصاع ، فقالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا الصعلوك. فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ( التوبة: 79) قال ابن كثير:” وهذه أيضا من صفات المنافقين : لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال ، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مراء، وإن جاء بشيء يسير قالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا “.
أيها المسلمون: إن الموقف الشرعي من هؤلاء المنافقين هو أن نحذرهم؛ لأنهم يظهرون ما لا يبطنون، ويسرون ما لا يعلنون، ولربما تحدَّثوا باسم الدين فاغْتَرَّ بهم الأغرار، فيحسبونهم من الناصحين، والله أعلم بما يكتمون، ومع الحذر منهم لا بد من كشف خططهم، وفضْح أساليبهم، فهم جبناء وأصحاب حِيَل ومَكْر وخديعة، لا يجرؤون على التصريح بما يريدون، فيسعون إلى التدمير باسم التطوير، وإلى الإفساد باسم الإصلاح.
العنصر الثاني: خطورة الكذب وأثره على الفرد والمجتمع.
عباد الله: الكذب من أخطر الخصال الذميمة التى نهى عنها الشارع الحكيم؛ فهو مستقبح شرعاً وعقلاً، وتأباه الفطرة السليمة، فإنك ما زلت توقر المرء ما دام صادقاً فإن كذب سقط من عينك. وللكذب عواقبه الوخيمة على الفرد والمجتمع؛ وقد عدد الإمام ابن القيم رحمه الله خطورة الكذب ومفاسده فقال: ” الكذب متضمن لفساد نظام العالم، ولا يمكن قيام العالم عليه لا في معاشهم ولا في معادهم، بل هو متضمن لفساد المعاش والمعاد، ومفاسد الكذب اللازمة له معلومة عند خاصة الناس وعامتهم، كيف وهو منشأ كل شر، وفساد الأعضاء لسان كذوب، وكم أزيلت بالكذب من دول وممالك، وخربت به من بلاد، واستلبت به من نعم، وتقطعت به من معايش، وفسدت به مصالح، وغرست به عداوات، وقطعت به مودات، وافتقر به غني، وذلَّ به عزيز، وهتكت به مصونة، ورميت به محصنة، وخلت به دور وقصور، وعمرت به قبور، وأزيل به أنس، واستجلبت به وحشة، وأفسد به بين الابن وأبيه، وغاض بين الأخ وأخيه، وأحال الصديق عدواً مبيناً، ورد الغني العزيز مسكيناً، وهل ملئت الجحيم إلا بأهل الكذب الكاذبين على الله، وعلى رسوله، وعلى دينه، وعلى أوليائه، المكذبين بالحق حمية وعصبية جاهلية”( مفتاح دار السعادة)
لذلك ينبغي عليك وعلى ولدك عدم مصاحبة الكذاب. قال صالح بن عبد القدوس:
واختر صـــــــــــــديقاً واصـــــطفـيه تفاخراً *** إن القرين إلى المقـــــــــــــارن ينــــــــــسب
ودع الكذوب ولا يكن لك صاحباً *** إن الكذوب لبئس خلاً يصحب
أحبتي في الله: إن خطورة الكذب لم تقتصر على الحياة الدنيا فقط؛ بل لها عواقب وخيمة وحسرة وندامة على صاحبها يوم القيامة، فعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذّاب، وعائل مستكبر» ( مسلم ) ، والكذاب يُعذب في قبره قبل يوم القيامة، روى البخاري في صحيحه من حديث سمرة بن جندب – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال في حديث الرؤيا الطويل: «فأتينا على رجُل مستلق لقفاهُ، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شِقّي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخراه إلى قفاهُ، وعيناهُ إلى قفاهُ» قال: «ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح الأول كما كان، ثم يعود فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى» فسأل عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – فقيل له: «إنه الرجل يغدو من بيته فيكذبُ الكذبة تبلغ الآفاق»؛ فضلا عن أن الكذب طريق إلى النار؛ كما أن الصدق طريق إلى الجنة؛ فعن عبد اللّه بن مسعود- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ” عليكم بالصّدق، فإنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرّجل يصدق ويتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند اللّه صدّيقا. وإيّاكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وما يزال الرّجل يكذب ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند اللّه كذّابا” (البخاري ومسلم)
عباد الله: مما ينبغي التنبيه عليه: أن النكت وهي قصص مكذوبة يقصد بها إضحاك الآخرين داخلة في الكذب المنهي عنه؛ فكثير من الناس يؤلف نكت مكذوبة على رجالٍ معينين أو فئة أو صاحب مهنة؛ ليسخر منهم ويُضحِكَ الآخرين؛ كأن يقول: ( واحد صعيدي فعل كذا كذا…….)؛ ثم يتمايل الجميع من الضحك؛ يظنون أن هذا مباح!! وحسبك أن الله توعدهم هو ورسوله بالويل!
فعن معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه قال ؛ قال رسول اله صلى الله عليه وسلم:” ويلٌ للذي يحدِّثُ بالحديثِ لِيُضحِكَ بهِ القومَ فيكذِبَ ، ويلٌ لهُ ، ويلٌ له” ( صحيح الترغيب والترهيب للألباني)
وليس معنى ذلك أن الإسلام يدعوك إلى العبوس والكآبة والحزن؛ كلا ؛ إن الإسلام أباح المزاح شريطة أن يقول حقا وصدقا؛ وكان صلى الله عليه وسلم يمزح مع أصحابه ويداعبهم ولا يقول إلا حقا؛ وشواهد ذلك كثيرة.
فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ :” أن رجلا أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال يا رسول الله : احملني ، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنا حاملوك على ولد ناقة ، قال : وما أصنع بولد الناقة ؟!، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهل تلد الإبل إلا النوق!؟” (رواه الترمذي ) فكان قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مداعبة للرجل ومزاحاً معه ، وهو حق لا باطل فيه .
وروى الترمذي عن الحسن قال : أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : يا أم فلان ، إن الجنة لا تدخلها عجوز . قال : فَوَلَّتْ تبكي ، فقال : أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، إن الله تعالى يقول : {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} ( صححه الألباني بشواهده)
وهنا يتساءل الصحابة عن ذلك مخافة وقوعهم في الكذب؟! فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قالوا يا رسول الله : إنك تداعبنا؟! قال”: نعم ، غير أني لا أقول إلا حقا ” (رواه الترمذي)
أحبتي في الله: ومن الأمور التي أحببت أن أنبه أحبابي وآبائي وإخواني وأبنائي عليها؛ أن كثيرا من الناس يعتقد أن في الإسلام كذبا أبيضا وآخر أسودا ؛ أي كذبة بيضة وكذبة سودة؛ وهذا ليس من الشرع في الشئ؛ فالكذب كله محرم؛ صغيره وكبيره؛ قليله وكثيره؛ إلا ما رخص فيه الشرع الحكيم من أجل المصلحة وذلك في ثلاث حالات: فعن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت :” رخَّصَ النبِيُّ مِنَ الكَذبِ في ثلاثٍ : في الحربِ ، و في الإصلاحِ بين الناسِ ، و قولِ الرجلِ لامرأتِهِ . وفي روايةٍ: وحَدِيثِ الرجلِ امرأتَهُ ، وحَدِيثِ المرأَةِ زوجَها” (السلسلة الصحيحة الألباني)
عباد الله: إن الإسلام حرم الكذب حتى على الحيوانات التي لا تعقل؛ فلا يجوز لك أن تكذب عليها؛ وإليكم قصة في هذا الشأن.
روى العلامة المعلمي اليماني في كتابه الأنوار الكاشفة :” أن جماعة من أصحاب الحديث ذهبوا إلى شيخ ليسمعوا منه؛ فوجدوه خارج بيته يتبع بغلة له قد انفلتت؛ يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها البغلة ويدعوها لعلها تستقر فيمسكها؛ فلاحظوا أن المخلاة فارغة؛ فتركوا الشيخ وذهبوا وقالوا أنه كذاب! كذب على البغلة بإيهامها أن في المخلاة شعيراً !! والواقع أنه ليس فيها شيء!! فرجعوا ولم يسمعوا منه. وقالوا: هذا يكذب على البغلة فلا نأمن أن يكذب في الحديث!!”
العنصر الثالث : تربية النشء على الصدق ومكارم الأخلاق بين الواقع والمأمول.
لقد حث الإسلام على الصدق وأمرنا أن نكون دائما مع الصادقين؛ قال تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة/ 119) ومن أبرز الأمثلة على الصدق شخص رسولنا- صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه من أخلاق قبل البعثة، حيث كان يعرف قبل الرسالة بالصادق الأمين، وما جرَّب قومه عليه كذبًا قط.
عباد الله : إن الصدق لا ينحصر في مطابقة كلامك للواقع فحسب؛ بل الصدق يشمل مجالات الحياة كلها. قال ابن القيّم- رحمه اللّه-: والصّدق ثلاثة: قول وعمل وحال: فالصّدق في الأقوال: استواء اللّسان على الأقوال كاستواء السّنبلة على ساقها.
والصّدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة، كاستواء الرّأس على الجسد.
والصّدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص. واستفراغ الوسع وبذل الطّاقة.
لذلك يوصي الإسلام بأن نغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال حتى يشبوا عليها، وقد ألفوها في أقوالهم وأحوالهم كلها، فعن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يوماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت: تعال أعطك. فقال لها صلى الله عليه وسلم: ” وما أردت أن تعطيَه؟ ” قالت: أردت أن أعطيَه ثمراً. فقال لها: ” أما أنك لو لم تعطه لكذبت عليه كذبة”.( أحمد )
فانظر كيف يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم الأمهات والآباء أن ينشئوا أولادهم تنشئه يقدسون فيها الصدق ويتنزهون عن الكذب.
كما يجب أن نربي أولادنا على الصدق بمظاهره المتعددة؛ فللصدق مظاهر عديدة منها:
الصدق مع الله تعالى: وذلك بألا يخالف المسلم ظاهره باطنه، بأن يخلص لله معتقده وأفعاله وأحواله لله وحده لا شريك له، بعيداً عن الرياء والسمعة، وكل ما من شأنه أن يشوب صفاء المعتقد شائبة، من التعبد لغير الله.
ومنها الصدق مع النفس: وهو عدم التردد في الإقدام على فعل أو التردد في ترك الفعل. قال الله تعالى في كتابه الكريم { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [آل عمران: 159]؛ وصفة الثبات والإقدام على تنفيذ أمر قرره العبد على نفسه، تحتاج إلى العزيمة والهمة العالية.
ومنها صدق الحديث: فالمسلم يقول ما يعتقد، وإلا كان في إيمانه شيء من النفاق، ومن صدق الحديث ألا يحدث الإنسان بكل ما سمع، وبحسب المرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع.
ومنها صدق المعاملة: ولها صور عديدة، منها، صدق البيع والشراء، قال صلى الله عليه وسلم:” البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا؛ فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ” (متفق عليه) ؛ وصدق المعاملات الاجتماعية، في السوق ومحل العمل والوظيفة، وهذا المجال لا يحصره حد ولا عد.
أحبتي في الله: إن الصدق رأس الفضائل، وأجمل الصفات الحميدة التي يتحلى بها الإنسان وتزيده في العلم هيبة ووقارًا: إذ به تُنَال الثقة وتُكْسب الثروة ويَطيب العيش؛ فبالصدق تثبت الحقوق، وتحفظ الأرواح، ويتم النظام، ويعيش الناس في أمان وسلام، ولولاه لانتزعت ثقة الناس بعضهم من بعض، ولما وصل إليهم شيء من الحقائق في العلوم والأديان. ألا ترى أن الرجل الصادق يكون دائمًا موضع الثقة ومحل الأمانة مبجلاً محترمًا مهما كانت درجته، لأن الصادق لا يكون خائنًا، ولا مختلسًا، ولا نمامًا، ولا مخادعًا، ولا غشاشًا. فإذا عاملت رجلاً صادقًا فأنت في مأمن على مالك وعرضك، ويكون هو على يقين من رغبة الناس في معاملته؛ فالتاجر لا يعامله الناس إلا إذا اشتهر عنه الصدق في المعاملة؛ والصانع ينصرف عنه عملاؤه إذا لم يصدق في مواعيده؛ والطبيب لا يقصده أحد إلا إذا وثق به الناس وكان صادقًا…….وهكذا
ويُعد خلق (الصدق) عماد الأخلاق ومرجعًا لأمهاتها، حيث ترى الإنسان الصادق يتصف دائمًا بالفضائل والأخلاق فتجده صريحًا لا يرائي ولا ينافق، مستقيمًا غير متذبذب، كريمًا حازمًا، أمينًا، قنوعًا، رحيمًا، بارِّا، صابرًا، عفيفًا، متواضًعا، واضحًا، عاملاً، عادلاً، بعيدًا كل البعد عن الغش والغدر والمكر .. أما الإنسان الكاذب فتجده بعكس ذلك.
عباد الله: أختم هذا اللقاء بهاتين القصتين وكيف ربَّى الصالحون الأوائل أولادهم على الصدق لأن فيه النجاة.
قال الشيخ عبد القادر الجيلاني -رحمه الله-: بَنَيْتُ أمري على الصدق، وذلك أني خرجت من مكة إلى بغداد أطلب العلم، فأعطتني أُمِّي أربعين دينارًا، وعاهدتني على الصدق، ولمَّا وصلنا أرض (هَمْدَان) خرج علينا عرب، فأخذوا القافلة، فمرَّ واحد منهم، وقال: ما معك؟ قلت: أربعون دينارًا. فظنَّ أني أهزأ به، فتركني، فرآني رجل آخر، فقال ما معك؟ فأخبرته، فأخذني إلى أميرهم، فسألني فأخبرته، فقال: ما حملك على الصدق؟ قلت: عاهدَتْني أُمِّي على الصدق، فأخاف أن أخون عهدها. فصاح باكيًا، وقال: أنت تخاف أن تخون عهد أُمِّك، وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله!! ثم أمر بردِّ ما أخذوه من القافلة، وقال: أنا تائب لله على يديك. فقال مَنْ معه: أنت كبيرنا في قطع الطريق، وأنت اليوم كبيرنا في التوبة، فتابوا جميعًا ببركة الصدق وسببه” ( نزهة المجالس ومنتخب النفائس: الصفوري ) قارن بين ذلك وبين ما يحدث في واقعنا المعاصر: إذا طرق أحد الباب أو اتصل أحد على التليفون يقول الوالد لولده: قل له أبي مش موجود!!! إننا بهذا الشكل نربي أولادنا على الكذب ونطبقه أمامهم عملياً ولا شك أن هذه قدوة سيئة!!فلابد أن نضرب لهم القصص والأمثلة العملية التي تغرس في نفوسهم الصدق حتى يكون سجية وطباعا في تعاملهم مع الله ومع الناس وقبل كل ذلك مع أنفسهم!! روى أن جماعة من اللصوص لاحقوا شابا من أجل سرقته وأخْذ ما معه من مال؛ هرب الشاب إلى الغابة خوفاً من اللصوص؛ فوجد رجلا يحتطب فطلب منه أن يخبئه من اللصوص؛ فأشار عليه بالاختباء في كومة الحطب؛ فأتوا اللصوص وسألوا الحطاب: هل رأيت أحداً يجري منذ قليل؟ فأخبرهم بأن الشاب مختبئ في كومة الحطب، إلا أنهم سخروا منه وقالوا لبعضهم أنه يريد أن يؤخركم عن ملاحقة الشاب؛ وبالفعل انصرفوا بسرعة فخرج الشاب غاضباً وقال للحطاب: لماذا أخبرتهم بمكاني؟! فقال الحطاب: يا بني اعلم أن النجاة في الصدق دائماً. فالصدق منجاة وإن رأيتم فيه الهلكة!!
اللهم إنا نسألك الصدق في القول والعمل؛ ونعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق،،،،،،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق