يقول الله عز وجل: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ{175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{176})،
مثل مخزي لعلماء السوء، صوّرهم بأشنع وأقبح ما يمكن للخيال أن يتصوره، صورة الكلب اللاهث الذي لا يكف عن اللهث، ولا ينفك عن التمرغ في الطين والأوحال... ولتك لعمر الحق أقبح صورة مزرية لمن رزقه الله العلم النافع فاستعمله لجمع الحطام الفاني، وكان خزيا ووبالا عليه، لأنه لم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإيمان، وانسلخ من النعمة، وأتبعه الشيطان فكان من الغاوين.
وفي تشبيه ذلك الضال في حال لهفه على الدنيا بالكلب في حال لهثه، سِرٌّ بديعٌ، وهو أنَّ هذا الذي حاله ما ذكره الله مِن انسلاخه مِن آياته واتباعه هواه، إنما كان لشدة لـهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة، فهو شديد اللهف عليها، ولـهفه نظير لـهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه.، فإنه في الكلاب طبع لا تقدر على نفض الهواء المتسخن، وجلب الهواء الهواء البارد بسهولة، لضعف قلبها وانقطاع فؤادها، بخلاف سائر الحيوانات، فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلاّ عند التعب والإعياء.
ولكن يبقى التشبيه حاويا لحقيقة علمية لم يصل إليها علم الإنسان إلاّ في العقود المتأخرة من القرن العشرين الميلادي، ومؤداها أن الكلب هو الحيوان الوحيد الذي يلهث بطريقة تكاد تكون مستمرة، وذلك في محاولة منه لتبريد جسده الذي لا يتوفر له شئ يذكر من الغدد العرقية إلا في باطن أقدامه فقط، فيضطر إلى ذلك اللهاث في حالات الحرّ أو العطش الشديد أو المرض العضوي أو النفسي، أو الإجهاد والإرهاق أو الفزع والاستثارة....
لهــث الــكلب، من الناحية الفسيولوجية:
تبلغ
درجة الحرارة الطبيعية لجسم الكلب 38.6م، وهى أعلى من درجة جسم الإنسان
المعتادة، والبالغة 37م. وإذا كان جسم الإنسان يفرز عرقا من غدده العرقية
من أجل تبريد الحرارة إذا ارتفعت عن الدرجة المعتادة، فإن الكلب يسلك مسلكا
آخر هو "اللهث"، فيخرج لسانه ويلهث حتى عند الراحة، فيلهث بسرعة 10- 30
لهثه (أو نَفَسَ ) في الدقيقة. ولكن بعد بذل مجهود أو التعرض لخطر ما، فإنه
يلهث بأكثر من عشرة أضعاف هذا المعدل. ويضطر الكلب لأن يلهث، في التعب
والراحة، لعدم وفرة غدده العرقية (التي لا توجد سوى في وسادات أقدامه)، فهى
لذلك لا تسهم في خفض درجة حرارة جسمه إلاّ بقدر ضئيل.
ولمزيد
من التفصيل، فإن تدلى لسان الكلب وفتح فمه أثناء اللهث يؤدي إلى إدخال
أكبر كمية ممكنة من الهواء الجوي إلى الجهاز التنفسي، وخلالها يتم تبخير
جزء من الماء الموجود في الأنسجة التي يمرّ بها الهواء، وبالتالي تنخفض
درجة حرارة الجسم... كما يسلك الكلب مسلكا مساعداً، فيلحس أرجله من جسمه،
ويبلل لسانه بلعابه، فيتبخر هذا اللعاب، وهو ما يفيده في خفض درجة حرارة
جسمه...
تفرّد
الكلب من بين الحيوانات باللهث في كل أحواله، فالحيوانات تلهث إذا كانت
جائعة أو متعبة أو مهاجمة، ولكن الكلب يلهث جائعاً أو شبعانا، عطشانا أو
غير عطشان، مزجوراً أو غير مزجوراً، إنه يلهث دائماً. ثم هو أيضاً يصل إلى
مغزى ضرب المثل القرآني لتشبيه الذي أخلد إلى الأرض بعد إذ أتاه الله آياته
(علمه)، وذلك لأن الذي يظهر بهذه الصورة تجده مكروبا دائماً، لأنه متبع
لهواه، وتتحكم فيه الشهوات. وحين تتحقق له شهوة الآن، يتساءل هل سيفعل
مثلها غدا ؟ وتتملك الشهوة كل وقته، لذلك يعيش في كـرب مستمر، لأنه يخاف أن
يفوته النعيم أو أن يفوت هو النعيم، ويصير حاله كحال الكلب، يلهث آمناً أو
غير آمن، جائعاً أو غير جائع، عطشانا أو غير عطشان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق