Our Blog

رحله علي خطي الحبيب من الميلاد الي الممات (الدرس الثامن عشر)




عوامل الصبر والثبات
وهنا يقف الحليم حيران  ويتساءل عقلاء الرجال فيما بينهم  ما هي الأسباب والعوامل التي بلغت بالمسلمين إلى هذه الغاية القصوى والحد المعجز من الثبات؟
 كيف صبروا على هذه الإضطهادات التي تقشعر لسماعها الجلود  وترجف لها الأفئدة؟ ونظرا إلى هذا الذي يتخالج القلوب  نرى أن نشير إلى بعض هذه العوامل والأسباب إشارة عابرة بسيطة
1-الإيمان بالله وحده
إن السبب الرئيسي في ذلك أولا وبالذات هو الإيمان بالله وحده ومعرفته حق المعرفة  فالإيمان الجازم إذا خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ولا يطيش  وإن صاحب هذا الإيمان المحكم وهذا اليقين الجازم يرى متاعب الدنيا مهما كثرت وكبرت وتفاقمت واشتدت  يراها في جنب إيمانه  طحالب عائمة فوق سيل جارف جاء ليكسر السدود المنيعة والقلاع الحصينة فلا يبالي بشيء من تلك المتاعب أمام ما يجده من حلاوة إيمانه وطراوة إذعانه وبشاشة يقينه فأما الزبد فيذهب جفاء  وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .
ويتفرع من هذا السبب الوحيد أسباب أخرى تقوي هذا الثبات والمصابرة وهي:
2- قيادة تهوي إليها الأفئدة
 فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  وهو القائد الأعلى للأمة الإسلامية بل وللبشرية جمعاء  يتمتع من جمال الخلق وكمال النفس ومكارم الأخلاق  والشيم النبيلة والشمائل الكريمة بما تتجاذب إليه القلوب وتتفانى دونه النفوس وكانت أنصبته من الكمال الذي يعشق لم يرزق بمثلها بشر وكان على أعلى قمة من الشرف والنبل والخير والفضل  وكان من العفة والأمانة والصدق ومن جميع سبل الخير على ما لم يتمار ولم يشك فيه أعداؤه فضلا عن محبيه ورفقائه  لا تصدر منه كلمة إلا ويستيقنون صدقها.

اجتمع ثلاثة نفر من قريش كان قد استمع كل واحد منهم إلى القرآن سرا عن صاحبيه ثم انكشف سرهم فسأل أحدهم أبا جهل وكان من أولئك الثلاثة  ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا  حتى إذا تحاذينا على الركب  وكنا كفرسي رهان  قالوا: لنا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه  .

وكان أبو جهل يقول  يا محمد إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به  فأنزل الله:فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون  .

وغمزه الكفار يوما ثلاث مرات  فقال في الثالثة: يا معشر قريش  جئتكم بالذبح  فأخذتهم تلك الكلمة  حتى إن أشدهم عداوة يرفؤه بأحسن ما يجد عنده.
ولما ألقوا عليه سلا جذور وهو ساجد دعا عليهم  فذهب عنهم الضحك  وساورهم الهم والقلق  وأيقنوا أنهم هالكون.
ودعا على عتيبة بن أبي لهب فلم يزل على يقين من لقاء ما دعا به عليه  حتى إنه حين رأى الأسد قال: قتلني والله محمد  وهو بمكة.وكان أبي بن خلف يتوعده بالقتل  فقال  بل أنا أقتلك إن شاء الله فلما طعن أبيا في عنقه يوم أحد  وكان خدشا غير كبير كان أبي يقول: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك. فو الله لو بصق علي لقتلني .


وقال سعد بن معاذ وهو بمكة  لأمية بن خلف  لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:إنهم أي المسلمين  قاتلوك ففزع فزعا شديدا  وعهد ألايخرج عن مكة  ولما ألجأه أبو جهل للخروج يوم بدر اشترى أجود بعير بمكة ليمكنه من الفرار  وقالت له امرأته  يا أبا صفوان وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال لا والله ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا .



هكذا كان حال أعدائه صلى الله عليه وسلم  أما أصحابه  ورفقاؤه فقد حل منهم محل الروح والنفس وشغل منهم مكان القلب والعين  فكان الحب الصادق يندفع إليه اندفاع الماء إلى الحدور  وكانت النفوس تنجذب إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس.

          فصورته هيولى كل جسم...

. ومغناطيس أفئدة الرجال


وكان من أثر هذ الحب والتفاني أنهم كانوا ليرضون أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر أو يشاك شوكة. وطئ أبو بكر بن أبي قحافة يوما بمكة  وضرب ضربا شديدا دنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين  ويحرفهما لوجهه  ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه وحملت بنو تميم أبا بكر في ثوب  حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته  فتكلم آخر النهار فقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه  وجعل يقول ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت  والله لا علم لي بصاحبك  فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه فخرجت حتى جاءت أم جميل  فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله  قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله  وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت قالت: نعم فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح  وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر  وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع  قال: فلا شيء عليك منها قالت: سالم صالح  فقال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم قال: فإن لله علي ألاأذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل  وسكن الناس  خرجتا به يتكئ عليهما  حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم  .



3- الشعور بالمسؤولية
 فكان الصحابة يشعرون شعورا تاما ما على كواهل البشر من المسؤولية الفخمة الضخمة  وأن هذه المسؤولية لا يمكن عنها الحياد والإنحراف بحال  فالعواقب التي تترتب على الفرار عن تحملها أشد وخامة وأكبر ضررا عما هم فيه من الإضطهاد  وأن الخسارة التي تلحقهم  وتلحق البشر جمعاء  بعد هذا الفرار لا يقاس بحال على المتاعب التي كانوا يواجهونها نتيجة هذا التحمل.
4- الإيمان بالآخرة

وهو مما كان يقوي هذا الشعور  الشعور بالمسؤولية  فقد كانوا على يقين جازم من أنهم يقومون لرب العالمين  يحاسبون بأعمالهم دقها وجلها  صغيرها  كبيرها  فإما إلى النعيم المقيم  وإما إلى عذاب خالد في سواء الجحيم  فكانوا يقضون حياتهم بين الخوف والرجاء يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه  وكانوا: يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون وكانوا يعرفون أن الدنيا بعذابها ونعيمها لا تساوي جناح بعوضة في جنب الآخرة وكانت هذه المعرفة القوية تهون لهم متاعب الدنيا ومشاقها ومرارتها حتى لم يكونوا يكترثون لها ويلقون إليها بلالا.


5- القرآن:

وفي هذه الفترة العصيبة الرهيبة الحالكة كانت تنزل السور والآيات تقيم الحجج والبراهين على مبادئ الإسلام  التي كانت الدعوة تدور حولها  بأساليب منيعة خلابة  وترشد المسلمين إلى أسس قدر الله أن يتكون عليها أعظم وأروع مجتمع بشري في العالم  وهو المجتمع الإسلامي  وتثير مشاعر المسلمين ونوازعهم على الصبر والتجلد  تضرب لذلك الأمثال  وتبين لهم ما فيه من الحكم  أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب .......

 الم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين 

كما كانت تلك الآيات ترد على إيرادات الكفار والمعاندين ردا مفحما ولا تبقي لهم حيلة  ثم تحذرهم مرة عن عواقب وخيمة  إن أصروا على غيهم وعنادهم  في جلاء ووضوح  مستدلا بأيام الله  والشواهد التاريخية التي تدل على سنة الله في أوليائه وأعدائه  وتلطفهم مرة وتؤدي حق التفهيم والإرشاد والتوجيه  حتى ينصرفوا عما هم فيه من الضلال المبين.

وكان القرآن يسير بالمسلمين في عالم آخر ويبصرهم من مشاهد الكون وجمال الربوبية   وكمال الألوهية  وآثار الرحمة والرأفة، وتجليات الرضوان ما يحنون إليه حنينا لا يقوم له أي عقبة.

وكانت في طي هذه الآيات خطابات للمسلمين  فيها يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم  وتصور لهم صورة أعدائهم من الكفرة الطغاة الظالمين  يحاكمون ويصادرون  ثم يسحبون في النار على وجوههم  ذوقوا مس سقر


6- البشارات بالنجاح
 ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يوم لاقوا فيه الشدة والإضطهاد  بل ومن قبله  أن الدخول في الإسلام ليس معناه جر المصائب  والحتوف. بل إن الدعوة الإسلامية تهدف  منذ أول يومها إلى القضاء على الجاهلية الجهلاء ونظامها الغاشم وأن من أهدافها الأساسية بسط النفوذ على الأرض والسيطرة على الموقف السياسي في العالم  لتقود الأمة الإنسانية والجمعية البشرية إلى مرضاة الله.

وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله.وكان القرآن ينزل بهذه البشارات  مرة بالتصريح وأخرى بالكناية ففي تلك الفترات القاصمة التي ضيقت الأرض على المسلمين  وكادت تخنقهم  وتقضي على حياتهم  كانت تنزل الآيات بما جرى بين الأنبياء السابقين وبين أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم  وكانت تشتمل هذه الآيات على ذكر الأحوال التي تطابق تماما أحوال مسلمي مكة وكفارها  ثم تذكر هذه الآيات بما تمخضت عنه تلك الأحوال من إهلاك الكفرة والظالمين  وإيراث عباد الله الأرض والديار. فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل  ونجاح المسلمين مع نجاح الدعوة الإسلامية.

وفي هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشارة غلبة المؤمنين

 قال تعالى: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون  فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين  
وقال: سيهزم الجمع ويولون الدبر 
وقال: جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب
 ونزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة:
 والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة، ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون
وسألوه عن قصة يوسف فأنزل الله في طيها.
 لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين  
أي فأهل مكة السائلون يلاقون ما لاقى إخوانه من الفشل  ويستسلمون كاستسلامهم 
 وقال وهو يذكر الرسل: 
وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين  ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد 
 وحينما كانت الحرب مشتعلة بين الفرس والرومان وكان الكفار يحبون غلبة الفرس بصفتهم مشركين  والمسلمون يحبون غلبة الرومان بصفتهم مؤمنين بالله والرسل والوحي والكتب واليوم الآخر وكانت الغلبة للفرس أنزل الله بشارة غلبة الروم في بضع سنين ولكنه لم يقتصر على هذه البشارة الواحدة  بل صرح ببشارة أخرى وهي نصر الله للمؤمنين حيث قال:
 ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يقوم بمثل هذه البشارات بين آونة وأخرى  فكان إذا وافى الموسم  وقام بين الناس في عكاظ ومجنة وذي المجاز لتبليغ الرسالة لم يكن يبشرهم بالجنة فحسب بل يقول لهم بكل صراحة 


 يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب  وتدين لكم بها العجم فإذا متم كنتم ملوكا في الجنة  .

وقد أسلفنا ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة حين أراد مساومته على رغائب الدنيا وما فهمه ورجاه عتبة من ظهور أمره عليه الصلاة والسلام.

وكذلك ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم آخر وفد جاء إلى أبي طالب  فقد صرح لهم أنه يطلب منهم كلمة واحدة يعطونها تدين لهم العرب ويملكون العجم.

قال خباب بن الأرت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده  وهو في ظل الكعبة  وقد لقينا من المشركين شدة فقلت: ألا تدعو الله، فقعد  وهو محمر وجهه  فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت ما يخاف إلا الله  زاد بيان الراوي- والذئب على غنمه  وفي رواية ولكنكم تستعجلون .

ولم تكن هذه البشارات مخفية مستورة بل كانت فاشية مكشوفة  يعلمها الكفرة  كما كان يعلمها المسلمون  حتى كان الأسود بن المطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تغامزوا بهم  وقالوا: قد جاءكم ملوك الأرض سيغلبون على ملوك كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون  .
وأمام هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا  مع ما فيه من الرجاء الصالح الكبير البالغ إلى النهاية في الفوز بالجنة  كان الصحابة يرون أن الإضطهادات التي تتوالى عليهم من كل جانب  والمصائب التي تحيط بهم من كل الأرجاء  ليست إلا:سحابة صيف عن قليل تقشع. هذا ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يغذي أرواحهم برغائب الإيمان ويزكي نفوسهم بتعليم الحكمة والقرآن ويربيهم تربية دقيقة عميقة  يحدو بنفوسهم إلى منازل سمو الروح  ونقاء القلب ونظافة الخلق والتحرر من سلطان الماديات والمقاومة للشهوات  والنزوع إلى رب الأرض والسماوات ويذكي جمرة قلوبهم  ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس  فازدادوا رسوخا في الدين  وعزوفا عن الشهوات  وتفانيا في سبيل المرضاة وحنينا إلى الجنة وحرصا على العلم  وفقها في الدين ومحاسبة للنفس وقهرا للنزعات وغلبة على العواطف وتسيطرا على الثائرات والهائجات  وتقيدا بالصبر والهدوء والوقار......


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Designed by Templateism | MyBloggerLab | Published By Gooyaabi Templates copyright © 2014

صور المظاهر بواسطة richcano. يتم التشغيل بواسطة Blogger.