(وبالوالدين إحسانا )
عناصر الخطبة
1- المقدمة .
2- برالوالدين .
3- صور من بر الوالدين .
4- صورة من عقوق الوالدين .
5- أسباب عقوق الوالدين .
العنصر الأول :المقدمة
الحمد لله الذي امتن على عباده بالأسماع والأبصار ..
وكرم الإنسان ورفع له المقدار ..
واصطفى من عباده المتقين الأبرار ..
فوفقهم للطاعات .. وصرفهم عن المنكرات .. وأعدّ لهم عقبى الدار ..
أحمده سبحانه .. فهو الذي خلق المنطق واللسان ..
وأمر بالتعبد وذكر الرحمن .. ونهى عن الغيبة ومنكر البيان ..
فسبحانه من إله عظيم .. يحصي ويرقب .. ويرضى ويغضب ..
وينصب الميزان .. يوم تنطق الجوارح .. وتبين الفضائح ..
فإذا هم قد أحصيت أعمالهم .. وهتكت أستارهم .. وفشت أسرارهم .. ونطقت أيديهم وأرجلهم ..
فأشهد أن لا إله إلا هو الملك الحق المبين ..
وأشهد أن محمداً عبده المصطفى .. ونبيه المجتبى .. ورسوله المرتضى .. الذي لا ينطق عن الهوى ..
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين .. أما بعد :
فهذه رسالة .. أبعثها إلى أخوة وأخوات .. من المؤمنين والمؤمنات ..
أحب لهم الخير والهدى .. وأكره لهم الشر والردى ..
إنها صيحة في جموع الغافلين .. اللاهين السادرين ..
إنها أشجان .. أصرخ بها .. في آذان سلم الله سمعها .. وعقول كمل الله لبها .. وأجساد زاد الله حسنها .. بل إنها صرخات نذير .. ونداءات تحذير .. أهتف بها في الجموع .. لعل عاصياً يتوب .. أو مفتوناً يئوب ..
أما بعد: أيها المؤمنون
: إن من أكبر الحقوق على المسلم وأوجبها حقَ الوالدين، ولهذا قرنه سبحانه بحقه كما قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36]، بل أوصى جل جلاله بالإحسان إليهما وصحبتهما بالمعروف ولو كانا كافرين، ولكن لا يطيعهما في معصية الله والإشراك به كما قال سبحانه وتعالى ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 14، 15.
وكان من صفات أنبياء عليهم السلام الله التي مدحهم الله بها برُ الوالدين كما قال عن يحيى - عليه السلام - ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ [مريم: 14]. وقال سبحانه وتعالى عن عيسى - عليه السلام -: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 32.
عباد الله: المقصود ببر الوالدين هو الإحسان إليهما بجميع وجوه الإحسان قولاً وفعلاً، الإحسان بالكلام الطيب وخفض الصوت، والصلة المستمرة، والإحسان بالخدمة وبذل المال وقضاء الحوائج، والرّفق بهما بمراعاة المشاعر وجبر الخواطر، والبحث عن رضاهما وتحصيل محبوباتهما.
أيها المؤمنون: لقد وردتْ النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة مرغبةً في بر الوالدين محذرةً من عقوقهما، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24] ففي هذا الآية يأمر سبحانه وتعالى ويوصي بعد الأمر بعبادته والني عن الإشراك به ببر الوالدين والإحسان إليهما، وطيب الكلام معهما، خصوصاً حال الكِبر حيث يَضعف الوالدان ويحتاجان إلى مزيد عناية وخدمة، وقد يصدر منهما مالا يتوافق مع رغبة الابن، وينهى سبحانه عن نهرهما والإغلاظ عليهما حتى إنه سبحانه وتعالى نهى عن مجرد التَأفف لهما الذي علامة على عدم الرضا، ثم يرسم جلَّ وعلا صورةً بليغة للرفق بهما واللين معهما وهي خفض الجناح لهما، تشبيها بالطائر الذي يخفض جناحه لفراخه حنواً عليهما، ثم يأمر سبحانه وتعالى بالدعاء لهما جزاء ما قدموا للولد حال صغره من عناية وتربية.
كما وردت الأحاديث الكثيرة في فضل بر الوالدين وتحريم عقوقهما ومخالفة أمرهما حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل بر الوالدين مقدمًا على الجهاد في سبيل الله، كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أحب إلى الله؟! قال: "الصلاة على وقتها"، فقلت: ثم أي؟! قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟! قال: "الجهاد في سبيل الله".
و جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: "أَحيٌ والدك؟"، قال: نعم قال: "ففيهما فجاهد" متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: أقبل رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله - عز وجل -، قال: "فهل من والديك أحد حيٌّ؟"، قال: نعم، بل كلاهما، قال: "فتبتغي الأجر من الله - عز وجل -؟"، قال: نعم، قال: "فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما". أخرجه مسلم.
فهنا جعل النبي صلى الله عليه وسلم بِرَّ الوالدين من الجهاد، وأمر هذا الرجل بالرجوع إليهما وترك جهاد التطوّع.
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخدرِي رضي الله عنه"أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إِلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنَ اليَمَنِ فَقَالَ: «هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ؟»، قَالَ: أَبَوَايَ، قَالَ: «أَذِنَا لَكَ؟» قَالَ: «لَا»، قَالَ: «ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا". أخرجه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبَّان والحاكم.
وفي هذا الحديث وجوب استئذان الوالدين حتى في الخروج للجهاد في سبيل الله، فكيف بغيره.
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف»، قيل: من؟ يا رسول الله قال: «من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة».
وفي سنن النسائي أَنَّ جَاهِمَةَ السلمي جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يا رسول الله: أردت الغزو، وجئتك أستشيرك، فقال: "هل لك من أم؟!"، قال: نعم، فقال: "الزمها؛ فإن الجنة تحت رجليها".
ولما ماتت أم إياس بن معاوية بكى فقيل له: ما يبكيك؟! قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، وأغلق أحدهما.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، والسعيد من وُفق لبر والديه والإحسان إليهما، فإن في برهما خيري الدنيا والآخرة، والشقي من عقهما وخالف أمرهما وأغضبهما، وسيندم لامحالة في الدنيا أو الآخرة.
عباد الله: إن بر الوالدين دَين يجد وفاءه الإنسان، وكما تدين تدان، وإن من ثمراته العاجله أن يجد الإنسان ثمرة ذلك في أولاده فيبرُّه أولاده ويحسنوا إليه كما برَّ والديه وأحسن إليهما، وهذا أمرٌ مشاهد وإن لم يثبت بذلك حديث صحيح.
أيها الشاب اعلم أن برك بوالديك وطاعتك لهما عنوان رجولتك ودليل مرؤتك وأمارة نُبلك وسبب سعادتك في الدارين.
أخي الحبيب إن والديك هما سبب وجودك، وأرحم الناس بك، أقرب الناس إليك، يشقيان في هذه الحياة لتسعد، ويتعبان لتستريح، ويجوعان لتشبع، يعطيانك من غير منٍّ ولا أذى.
حملتك أمه في بطنها تسعة أشهر، ولاقت الشدائد في حملك ووضعك ثم صبرت على أذاك ومرضك تنظيفك في صغرك.
وهكذا أبوك فقد رباك وأنفقك عليك وتعب في رعايتك صبياً ومراهقاً.
قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إن لي أُماً بلغ منها الكِبَر أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية، فهل أديتُ حقها؟ قال: لا. لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءَك، وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها، ولكنك محسن، والله يثيب الكثير على القليل".
أخي في الله، إياكَ إياك أن تقدم مصلحتك الشخصية أو رغباتِ أصدقائك، أو هوى زوجتك على رضا والديك، فإنهما أحقٌّ الناس بحسن صحبتك، فقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟! قال: "أمك"، قال: ثم من؟! قال: "أمك"، قال: ثم من؟! قال: "أمك"، قال: ثم من؟! قال: "أبوك". متفق عليه.
احذر رعاك الله ممن يأمرك بعصيان والديك أو يهوُّن حقهما في نفسك أو يجرّئك على التقصير في حقهما أو يصوّر لك أنهما شيخان كبيران لايفهمان ولايقدّران الأمور، ولايعرفان مستجدات الحياة! فمثل هذا لاخير فيه ولا في صحبته. قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: "لا تصحب عاقًّا لوالديه؛ فإنه لن يبرك وقد عق والديه".
صور من بر الوالدين
أبو هريرة وبره بأمه
أبو هريرة يضرب به المثل في طاعته لوالدته، يقول: {هاجرت من زهران إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما نزلت في البيت ومعي أمي أخذت تسب رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فغضبت، وذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقلتُ: يا رسول الله! أمي تسبك، أسمعتني فيك ما أكره، فادعُ الله لها، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: اللهم اهد أم أبي هِرٍّ، اللهم اهد أم أبي هِرٍّ قال أبو هريرة: يا رسول الله! وادعُ الله أن يحببني وإياها إلى صالح المسلمين قال: وحببهما إلى صالح عبادك} وعاد فوجدها تغتسل، وطرق عليها، وإذا بها تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وعادت مهتدية إلى الله، لما كان ابنها باراً بها.
أويس القرني بر أمه فبر الله قسمه
وهذا أويس القَرَني، وهو من مراد، ونحن نلتقي معه، لكن لا نفتخر بذلك؛ فـأبو لهب عم الرسول عليه الصلاة والسلام في النار، والنسب لا يقارب ولا يباعد، يقول عليه الصلاة والسلام: {يا بني هاشم! لا تأتوني بأنسابكم يوم القيامة ويأتيني الناس بأعمالهم} وقال عليه الصلاة والسلام: {من بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه} وعبد مولى قريب من الله عز وجل هو حبيب الله وولي الله، فـبلال الحبشي أتى من الحبشة، كان يباع ويشترى، فلما أسلم رفع الله ذكره في الخالدين، وأصبح له قصر في الجنة كالربابة البيضاء.
يقول عليه الصلاة والسلام للصحابة وهو يحدثهم: {سوف يقدم عليكم من أهل اليمن رجل اسمه أويس بن عامر القرني... } وضبط قبيلته: قَـرَن. كما قال ابن مالك:
وعدن وقرن ولا حق وشذقم وهيلة وواشق
فهي قَرَن، وليست قَرْناً.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: {له أم هو بار بها، لو أقسم على الله لأبره، فيه كالدرهم من آثار مرض البرص، يشفع يوم القيامة لمثل قبيلة مضر حتى يدخلوا بشفاعته الجنة}.
وكان رجلاً فقيراً في اليمن، ليس لـه مال، ولا زوجة، ولا أبناء ولا بنات.
هذا الرجل قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم عنه للصحابة: {إذا قدم عليكم فاطلبوا منه أن يستغفر الله لكم} يستغفر لـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم خير منه لكنها حكمة من الله! ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
فكان أبو بكر في خلافته كلما أقبل وفد من أهل اليمن سألهم، وقال: أفيكم أويس بن عامر القرني؟ فيقولون: لا. فتوفي أبو بكر ولم يأت أويس،
وتولى عمر رضي الله عنه وأرضاه، فكان يسأل أهل اليمن حتى أتاه وفد الحجاج من أهل اليمن، فقال: أفيكم أويس بن عامر القرني؟ قالوا: نعم. يا أمير المؤمنين! عندنا رجل يَرْعى الإبل لنا في الوادي، إن كان هو الذي تقصد فهو راعي غنم، ماذا تريد مـن راعي الغنم؟ قـال: ألَهُ والدة؟ قالـوا: نعم. قال: أهو بار بها؟ قالوا: نعم. قال: أصابه برص فبقي في بطنه كالدرهم من آثار البرص، قالوا: نعم. فقال للصحابة: قوموا بنا إلى أويس بن عامر فركب حماره رضي الله عنه وأرضاه ومعه علي وجل الصحابة، وذهبوا إليه في الوادي، وهو في ضاحية من ضواحي المدينة، أتوا إليه، وقد توضأ وجعل عصاه سترة له إلى القبلة، يسجد ويركع ويدعو ويبتهل إلى الله، فانتظر عمر حتى انتهى أويس من الصلاة، فسلم عليه، وقال عمر: من أنت؟ قال:أويس بن عامر قال: ألك والدة؟ قال: نعم. قال: اكشف عن بطنك، فكشف، فرأى عمر رضي الله عنه كالدرهم من البرص في بطنه، فقبل عمر بطنه، وقال: استغفر لي، فبكى أويس بن عامر، وقال: سبحان الله! أستغفرُ لك وأنت أمير المؤمنين! قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لنا: {يقدم عليكم من أهلاليمن رجل له والدة هو بها بار، لو أقسم على الله لأبره، يدخل بشفاعته مثل قبيلة مضر يوم القيامة في الجنة} فقال: غفر الله لك يا أمير المؤمنين!
فأخذ الصحابة يقولون: استغفر لنا استغفر لنا، وهو يدعو لهم.
ثم قال عمر: أتريد أن تقيم معي في المدينة؟ قال: يا أمير المؤمنين! اتركني أحيا يوماً جائعاً ويوماً شبعاناً حتى ألقى الله. فعاد عمر وسأل عنه في اليوم الثاني فلم يجده، وسأل رفقته فلم يجدوه، وقالوا: اختفى وذهب إلى العراق وحيداً غريباً.
غريباً من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد
سكن الخرابات حتى لقي الله، وهو يشفع يوم القيامة لمثل القبيلة العربية العظيمة مضر، يدخلهم الجنة بسبب بره بأمه.
فرضي الله عن أويس، الذي استغفر لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد ذهب إلى الله ببره بأمه
من قصص التابعين في بر الوالدين
قيل لأحد الصالحين، وكان مشهوراً ببر الوالدين: ما بلغ برك بأمك؟ قال: ما مددت يدي إلى الطعام إلا بعد أن تمد يدها، وما نمت إلا بعد أن تنام، وما رقيت سطحاً وهي تحتي خوفاً من أن أعقها بأن أرتفع عليها.
وقالوا للحسن البصري: سمعنا أنك بارٌّ بأمك، فما بلغ بك من بر أمك؟ قال: ما نظرت إلى وجهها حياءً منها.. فكيف بمن بلغ به العقوق إلى أن يضرب والديه، أو يلعنهما؟!!
جاء في الأثر: [[من عق والده حتى بكى، فالذمة منه مقطوعة]].
وفي أثر آخر: [[من بكى منه أبوه أو أمه فقد سلخ النور عن جبينه]].
وهذه الآثار تنسب للسلف، ولا ترفع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال جعفر الصادق لابنه: [[يا بني! لا تصاحب عاقَّ الوالدين؛ فإن الله قد غضب عليه من فوق سبع سماوات، فكيف تصاحبه؟!]].
صورة من عقوق الوالدين
قصة الشيخ الذي شكا ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
يـجلس عليه الصلاة والسلام في مجلس مع الصحابة، فيأتي شيخ كبير مسن عجوز، وهو يبكي، فيقول عليه الصلاة والسلام: ما لك؟ قال: يا رسول الله! أشكو إليك داهية من الدواهي -أي: معضلة من المعضلات- قال: ما لك؟ قال: ابني يا رسول الله! ربيته، سهرتُ لينام، وجعتُ ليشبع، وظمئت ليروَى، وتعبت ليرتاح، فلما كبر غمط حقي وظلمني، ولوى يدي وضربني -ذكر ذلك الزمخشري وغيره- ثم أنشد شعراً في ولده يقول:
غذوتُك مولوداً وعِلْتًك يافعاً
تعلُّ بما أجني عليك وتنهلُ
إذا ليلةٌ ضافتك بالسقم لم أبت
لسقمك إلا شاكياً أتململُ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي
لدغت به دوني فعيناي تَهْمِلُ
فلما بلغت السن والغاية التي
إليها مدى ما فيك كنتُ أؤمِّلُ
جعلت جزائي غلظة وفظاظة
كأنك أنت المنعم المتفضلُ
فليتك إذ لم ترعَ حق أبوتي
فعلت كما الجار المجاور يفعلُ
فبكى عليه الصلاة والسلام، وروي أن جبريل نزل فقال: {إن الملائكة بكت لبكاء هذا الشيخ} ثم استدعى النبي صلى الله عليه وسلم ابنه، فأخذ بتلابيب الابن وهزَّه، وقال: {أنت ومالك لأبيك} ليبين عليه الصلاة والسلام أن الابن وماله لأبيه يتصرف فيه، وأنه لا يجوز أن يخرج عن طاعته، إلا إذا أمر بمعصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
أقول قولي هذا وأستغفر الله
الخطبة الثانية
أسباب عقوق الوالدين
ولا يحدث عقوق الوالدين إلا بأسباب أربعه:
أولها: سوء التربية:
فإن الوالد مسئول عن تربية ابنه على الكتاب والسنة، والوالد الذي لا يربي ابنه على القرآن، وعلى حب الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى الإتيان به إلى المسجد، والمداومة على الصلوات الخمس، وعلى تقوى الله، والصدق، والوفاء، يستحق العقوق من ولده.
ثانيها: الجهل:
فعلى الوالد أن يعلِّم ابنه ولا يتركه جاهلاً، لا بد أن يعلِّمه العلم الشرعي وهو كتاب الله، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
يُروَى أن أحد العلماء جاءه رجل، فقال له: ابني ضربني، قال: تعال بابنك، فأتى به فإذا هذا الابن كبير سمين بدين كأكبر ما يكون من الرجال، فقال له: أضربتَ أباك؟ قال: نعم. ضربتُه، قال: لِمَ ضربتَه؟ قال: وهل يحرم أن يضرب الابن أباه؟ أي: هل في الشريعة أنه لا يجوز ضرب الابن لأبيه؟ قال العالم للأب: أعلَّمتَ ابنك شيئاً من القرآن؟ قال: لا والله. قال: أعلمتَه شيئاً من السنة؟ قال: لا والله. قال: أعلمتَه شيئاً من آداب السلف؟ قال: لا. قال: فماذا صنعت معه في حياته؟ قال: أطعمتُه وسقيتهُ وآويتُه حتى كَبُر، قال: تستحق أن يضربك؛ لأنه ظن أنك ثور فضربك.
ثالثها : عدم تعليم الأبناء العلم الشرعي الذي ينفعهم في الدار الآخرة، ويقربهم من الله، ولا أعني علم الثقافة، وعلم القشور، والمعلومات التي تستحوذ على الذهن ليصبح سلة مهملات، هذا ليس بعلم.. قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
رابعها : عق الرجل والديه؛ فالجزاء من جنس العمل، فمن بر أبويه رزقه الله عز وجل أولاداً يبرونه.
أحد الناس سحبه ابنه من بيته حتى أخرجه خارج المنـزل، فقال الأب لابنه: قف هنا، فوالله لقد سحبت أبي من هذا المكان حتى أوقفته في هذا المكان، وهذا الجزاء من جنس العمل.
هذا وما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأٍ، أو سهوٍ، أو نسيانٍ، فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه الأطهار الأخيار ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
-------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق