عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدى إلى البر وإن البر يهدى إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدى إلى الفجور وإن الفجور يهدى إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباإنَّ من أجلِّ نعمِ الله تعالى على العبد المسلم، أن يُحبِّبَ إليه الصـــــدقَ، فلا ترتاحُ نفسُهُ، ولا يهــدأُ ضميرهُ إلا بالصدق، فإذا تردَّدَ في أمر: آثر الصمتَ على أن يقول قـولاً لا يدرى أفي حق هو أم في باطل، وفي الحديث: « دع ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ، فإنَّ الصدقَ طمأنينةٌ, وإن الكذبَ ريبةٌ ولئن كان في الناس من لا ترتاحُ نفسُهُ إلا بالصدق، ولا يطمئنُ قلبُهُ إلا به: فإنَّ في الناس من لا ترتاح نفسُهُ إلا بالكذب، ولا يهدَأُ بالُـهُ إلا به، حتى يُصبحَ عند أحدِهِم كالإدمان، لا يكادُ ينفكُ عنه, فقد قيلَ لكذَّابٍ ما يحمِلُكَ على الكذب؟ فقال : أما إنَّك لو تغرغرت ماءَهُ ما نسيتَ حلاوته، وقيلَ لكذَّابٍ آخر: هل صدقت قط؟ فقال: أكره أن أقول: لا فأصدُق. يعني أن الكذبَ يُصبحُ عند من اعتادَ عليه طبعاً وخُلُقَاً لا خلاص منه. ولهذا قال لقمان لابنه: « يا بُنيَّ احذر الكذبَ فإنه شهيٌ كَلَحْمِ العُصْفُور، من أكلَ منه شيئاً لم يصبر عنه» . ومن هنا جاءت الشريعةُ المباركةُ بإلْزام المربينَ بالصدق في تعامُلِهِم مع الأطفال حتى لايعتادَ أحدُهُمُ الكذبَ فيصبحَ طبعاً له، ومما يُروى في هذا قولُهُ عليه الصلاة والسلام: « إن الكذبَ لا يصلُحُ منه جدٌ ولا هزْل، ولا أن يعدَ الرجلُ ابنه ثم لا يُنْجزُ له » ، ورأى عليه الصلاة والسلام مرَّة امرأةً تقولُ لصبي لها : تعال حتى أُعطيكَ، وتشير له بيدها كأن فيها شيئاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما أردت أن تُعطيه ؟ قالت: تمراً، فقال: إن لم تفعلي كُتبت عليك كَذْبَةٌ». وهكذا عليه الصلاة والسلام يجتث الكذب من أصوله الأولى، فلا يدع بذرته تنمو من أول الأمر، لعلمه عليه الصلاة والسلام أنَّ الكذبَ أصلُ النفاق، وأنَّ الصدقَ أصلُ الإيمان. ومن المعلوم أنَّ الكذبَ ليس من الأخلاق الفطرية التي يمكن أن يُجْبَلَ عليها الإنسان، وإنما هو خلقٌ يتعلمُهُ من البيئة الاجتماعية، وفي الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « يُطبع المؤمنُ على الخــــلالِ كلِّها إلا الخيانةَ والكذب
إذا تقرَّرَ قبح الكذب: فإن أخبثَ أنواعه: التكذيبُ بالدين، من خلال التصديق بالباطل، والإنكار للحق. فهذه الأممُ السابقةُ التي كذَّبت الرسل ، وأنكرت الحق: أخذهُمُ الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، فمنهم من خسف به الأرض, ومنهم من أغرقه, ومنهم من أرسلَ عليه الريح، ومنهم من أخذه بالصيحة. وكلُّ هذا بسبب التكذيب. وفي هذا يقصُّ المولى عز وجل علينا خَبرَهم فيقول: ) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَأَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (، وقــال : ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ(، وقال أيضـاً: ) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْـخَاسِرِينَ(.
وأما الكذب بين الناس فهو وإن لم يصل إلى درجةِ الكفرِ فإنه من المحرمات الممنوعة، ومن المسالِكِ المذمومة التي تأباها النفوسُ الكريمة، وتترفَّعُ عنها الطباعُ الحميدة، ولهذا لم يكن خُلقٌ أبغضَ إلى رسول الله صلى عليه وسلم من الكذب، وكذلك السلفُ الصالح، فإن بعضهم كان يحذر من الكذب ليس لكونه حراماً وخداعاً، ولكن لكونِهِ مخالفاً للمُروءة، فإن حياةَ الكذب: موت للمروءة، ومن عُرف بالصدق قُبل كذبُهُ، ومن عُرف بالكذب: كُذِّب وإن صدق. فالصدق أعز من السيف القاطع في يد الرجل الشجاع، حتى وإن كان فيه ما يكره، والكـــذب ذلٌ وإن كان فيه ما يُحب . فالصدق ميزان الله الذي يدور عليه العدل، وهو عماد الأمر، وبه تمامُهُ، وفيه نظامه. وهو تالي درجة النبوة، كما في قوله تعالى: ) وَمَنيُطِعِ اللَّـهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ(. وما يظنُّهُ بعضهم من مصلحةٍ يحققها من وراء الكذب، فإنَّ المنفعةَ الدنيويــة ولو كانت مُلك الدنيا بحذافيرها لا تعدِلُ الضَّرر الحاصلَ من أدنى الكذب. وفي الحديث: « أربعٌ إذا كنَّ فيكَ فلا عليك ما فاتَكَ من الدنيا: حفظُ أمانةٍ، وصدقُ حديثٍ، وحسنُ خليقةٍ، وعفةٌ في طُعْمـــة » . وفي حديـث آخر: « اضْمَنوا سِتاً من أنفسكم أضمن لكُمُ الجنة: اصدقوا إذا حدَّثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا ائتُمِنْتُم، واحفظوا فروجَكُم، وغُضُّوا أبصارَكم، وكفُّوا أيديَكُم
ولئن كان ثوابُ الصدق: نجاةَ العبد في الآخرة، فإنَّ أقلَّ ما يحصِّلُهُ في الدنيا: حلاوةً في منطقه، وملاحةً في منظرة، وهيبةً في مطْلعه. وأما الكذَّابُ فمع ما ينتظره في الآخرةِ من أليم العقاب، فإنه في الدنيا موقع شكِّ الناس وريبتِهِم، إذا شكَّكْته في حديثه تشكَّكَ حتى لربما رَجَعَ عنه، وإذا طالبته بالدليلِ تلعْثَم، وإذا نظرت إلى عينيه تردَّد، كأنه يقول خذوني. وفي القديم قالت الحكماءُ : « الوجوهُ مَرايا تُريكَ أسرارَ البرايا » . وقبيحٌ جداً أن يُحدِّثَ الرجلُ أخاه بالكذب هو له مصدِّق؛ فإن المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبُهُ.
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، وعليكم بالصدق حتى وإن رأيتم أنه يضرُّكم، فإنه لابد أن ينفعَكُم، واجتنبوا الكذب حتى وإن رأيتم أنه ينفعُكُم فإنه لا بد أن يضرَّكم.
واعلموا أن حقيقةَ الصدقِ: أن تصدقَ في موطنٍ لا يُنْجيكَ منه إلا الكذبُ
بارك الله فيك وجزاك الله الخير
ردحذف