Our Blog

حرمه قتل النفس

 

مظاهر تكريم الله للإنسان

الخطبة الأولى

الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، والعالم بتقلبها وأحوالها، المانّ عليهم بتواتر آلائه، المتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر السموات العلا، ومنشئ الأرضين والثرى، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه: (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) .

وأشهد أن محمداً عبده المجتبى ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضيء والأمر المرضي، على حين فترة من الرسل، ودُروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأكمل به الإيمان، وأظهره على كل الأديان، وقمع به أهل الأوثان، ف- صلى الله عليه وسلم - ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: لقد كرم الله هذا الإنسان وفضله على جميع مخلوقاته، فكان من أعظم مظاهر هذا التكريم أن خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وميزه بالعقل، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لهدايته، قال - تعالى -: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70].

بل سخر - سبحانه وتعالى - هذا الكون الفسيح بما فيه من خيرات ونعم والتي لا تعد ولا تحصى لخدمة هذا الإنسان وراحته قال - تعالى -: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)

ومن مظاهر تكريم الله للإنسان أن وهبه حق الحياة ونفخ فيه من روحه وسن الشرائع والأحكام التي تكفل ذلك فحرم إزهاق روحه وسفك دمه إلا في جوانب محددة من شأنها أن تكفل للمجتمع الحياة الطيبة والآمنة قال - تعالى -: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) .

وجعل - سبحانه وتعالى - التعدي على حياة هذا الإنسان من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم والذنوب التي تورد صاحبها المهالك في الدنيا والآخرة.. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: ((لا يزال المؤمن فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) قال: وقال ابن عمر: "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حل" .

ويقول - عليه الصلاة والسلام -: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً))

بل جعل - سبحانه وتعالى - قتل المسلم وسفك دمه من عظائم الأمور، يقول - عليه الصلاة والسلام -: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)

لذلك ينبغي لكل مسلم أن يدرك هذه الحقيقة فيحفظ نفسه ويحفظ حياة الآخرين من حوله رجالاً ونساءاً، صغاراً وكباراً و مدنيين أو عسكريين، مسلمين أو كفار مستأمنين ومعاهدين، قال - تعالى -: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) 

أيها المؤمنون -عباد الله- ومن مظاهر تكريم الله لهذا الإنسان أن كرمه بالإيمان به وحمله أمانة الدين وجعل ذلك الإيمان من أعظم الأسباب التي ينال بها العبد توفيق الله ومغفرته ورحمته في الدنيا والآخرة وهو سبب للتفاضل بين الناس عند الله القائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) 

فالإيمان والتقوى هما سبب بقاء هذا التكريم وبهما يترجح ميزان الإنسان ومكانته عند الله.. إن المال لو كان يغني صاحبه من الله شيئاً لكان قارون الذي ملك الكنوز أعظمهم شأنا ولو كان النسب ينفع صاحبه عند الله لكان ابن نوح - عليه السلام - وهو فلذة كبده وقطعة من فؤاده معه في الجنة قال - تعالى -مبيناً تلك الحال وذلك المآل: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ) 

قال الأصمعي: بينما أنا أطوف بالبيت ذات ليلة إذ رأيت شاباً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول:

يا من يجيب دعا المضطر في الظلم *** يا كاشف الضر والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا *** وأنت يا حي يا قيوم لم تنم

أدعوك ربي حزيناً هائماً قلقاً *** فارحم بكائي بحق البيت والحرم

إن كان جودك لا يرجوه ذو سعة *** فمن يجود على العاصين بالكرم

ثم بكى بكاءاً شديداً و سقط على الأرض مغشياً عليه، فدنوت منه، فإذا هو زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم أجمعين-، فرفعت رأسه في حجري وبكيت، فقطرت دمعة من دموعي على خده ففتح عينيه وقال: من هذا الذي يهجم علينا? قلت: عبيدك الأصمعي، سيدي ما هذا البكاء والجزع، وأنت من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة!! ? فقال: هيهات هيهات يا أصمعي إن الله خلق الجنة لمن أطاعه، ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان حراً قرشياً، أليس الله - تعالى - يقول: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون) 

عباد الله: ومن مظاهر التكريم أن الله علم هذا الإنسان كيف يصلح خطأه إذا أخطأ، وكيف يعود إليه مكرما إذا أهان نفسه بالخطأ، وكيف يمحو السيئة بالحسنة قال - تعالى -: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) 

وجعل - سبحانه وتعالى - طريق الاستغفار والتوبة والإنابة إليه طريق النجاة لهذا الإنسان، قال - تعالى -: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)  و قال - تعالى -: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً)  وهذا من رحمة الله وتكريمه لهذا الإنسان وإن المتأمل في تكاليف الشرع ونصوص الكتاب والسنة وفي هذا الكون ليجد رحمة الله بعبادة تتجلى في كل تشريع وكل عبادة وكل دعوة لعمل صالح فهو الرحمن الرحيم فلا ييأس العبد ولا يقنط من رحمة ربه مهما كانت الذنوب والمعاصي إذا صدق في نيته وأظهر توبته وأعلن ندمه قال - تعالى -: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة في الأرض، فبها يتراحم الخلق، حتى إن الفرس لترفع حافرها، والناقة لترفع خفها مخافة أن تصيب ولدها، وأمسك تسعة وتسعين رحمة عنده ليوم القيامة)) 

فاللهم ارحمنا رحمة تهدي بها قلوبنا وتغفر بها ذنوبنا وتصلح بها ما فسد من أحوالنا..

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

عباد الله: ومن مظاهر تكريم الله لك أيها الإنسان أنه أعدّ الجنة دارا لأهل كرامته وجعلها جزاءا لأهل احسانه وطاعته قال رسول الله -صلى الله علية وسلم- قال - تعالى -: ((أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر))

. واقرؤوا إن شئتم: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون).. وانظروا إلى رحمة الله بعباده و إلى هذا النعيم فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا عن آخر من يدخل الجنة: رجل فهو يمشي على الصراط مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين.. فترتفع له شجرة فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة أستظل بظلها وأشرب من مائها فيقول الله- تبارك وتعالى -: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول: لا يا رب، ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره، لأنه يرى مالا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها، ويشرب من مائها... ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: يا رب أدنني من هذه لأشرب من مائها، وأستظل بظلها لا أسألك غيرها.. فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها أن تسألني غيرها، فيعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى مالا صبر له عليه فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها.. ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين.. فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة لأستظلَّ بظلها وأشربَ من مائها لا أسألك غيرها.. فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب، هذه لا أسألك غيرها وربه يعذره لأنه يرى مالا صبر له عليه فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة.. فيقول: يا رب أدخلنيها.. فيقال له: ادخل الجنة فيقول: رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم.. فيقول الله: يا ابن آدم ما يرضيك مني؟! أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب فيقول: لك ذلك ومثله، ومثله، ومثله، ومثله.. فيقول في الخامسة: رضيت رب فيقول الله - تعالى -: لك ذلك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذّت عينك..

بل أعظم من ذلك أن يرى الإنسان ربه الذي خلقه فيحدثه ويخاطبه وهو أعظم تكريم يناله الإنسان.

عباد الله: لنحافظ على هذا التكريم الذي حبانا الله به دون سائر مخلوقاته وذلك بطاعته والالتزام بشرعه وتبليغ دينه ولنتراحم فيما بيننا وليعفوا عن بعض ولنعمل جميعاً على تآلف القلوب وإصلاح ذات البين وليحفظ كل واحدٍ منا ودّ صاحبه وأخيه وجاره فإن ذلك مما يرضي ربنا فيرفع مقته وغضبه عنا اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين..اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك..اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.

هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين والحمد لله رب العالمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Designed by Templateism | MyBloggerLab | Published By Gooyaabi Templates copyright © 2014

صور المظاهر بواسطة richcano. يتم التشغيل بواسطة Blogger.